"حين النظر إلى المشرق العربي، بما يحيط به من تداخلات إقليمية ودولية، فإننا على الأرجح إزاء عالم قديم آخذ بالانهيار الكامل.. إن حجم التغيرات الجارية الآن أفقيا وعموديا يعزز الاعتقاد بأنها تأخذ شكل الانهيار لعالم يتداعى الآن بكل قواه وفواعله، وبأن هذا التداعي أوسع من بؤرته العربية"، هذا ما كتبته في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، في صحيفة "عربي21"، تحت عنوان "عالم كامل ينهار.. وعودة دامية إلى التاريخ!".
في تلك المقالة؛ قلتُ إنّ كل شيء تقريبا ينهار؛ الدول والجغرافيات، والأيديولوجيات والسرديات الكبرى، والأنظمة والمعارضات، فهو انهيار يتسم بالشمول والقوّة والعمق والمدى الزمني الطويل.
اليوم، ثمّة من يتحدث عن انهيارنا العربي، ولكنه لا يرى فيما يجرى إلا الانهيار المفتقر إلى أي رافعة تضعه في سياق التأسيس لبناء جديد، إذ لا ملامح لبناء جديد، ولا إمكانية لمقارنة ما يجري عربيّا بأي تحوّل عميق كان الانهيار واحدا من مراحله، أو سمة ملازمة لعملية البناء الجديد المحايثة له.
وطالما أن هذا الانهيار يخصنا نحن العرب، ولأنه شامل وعام، فإن هذا يستبطن خطأ جوهريا خاصا بنا.. هكذا يرى بعضُ من بات يلاحظ الانهيار المستمر في مجالنا العربي الآن.
لا تخلو هذه الرؤية من نزعة استشراقية تفترض لنا مركزا نحاكيه، أو نموذجا قبليا في غير مجالنا نقيس عليه كي نفهم ما يجري لدينا، فلأن شكل الانهيار وأبعاده وموضوعاته لا تتطابق -بحسب هذه الرؤية- مع ما جرى في التحول الأوروبي، الذي كان -أيضا- طويلا وداميا، فإنّ هذا يعني بالضرورة، أن ما يجري لدينا اليوم، هو محض انهيار، يطوي على الخواء، فلا يؤسس لأي مرحلة جديدة تعيد إدخالنا في التاريخ وتعيد تنظيم اجتماعنا العربي والإسلامي بما يصعد بنا إلى المساهمة في تأثيث المشهد الحضاري للعالم.
بداهة؛ إن الأمم والشعوب والأديان والثقافات والتجارب التاريخية وما تختزنه الأمم والشعوب بذلك؛ ليس شيئا واحدا، فلا نحن مركز العالم الذي ينبغي على تجارب العالم أن تحاكيه، ولا أوروبا كذلك هي مركز العالم.
ومن ثم، إذا قضت القوانين بأن تكون التحولات العميقة التي تنقلب على أوضاع قرون طويلة سابقة وتفتح لأخرى جديدة؛ محمولة على معركة طويلة لن تخلو من العنف والانهيار؛ أيا كانت الشعوب والمجتمعات، فإنّ هذا لا يعني أن تتفق تلك التحولات بعد ذلك في كل شيء.
ومع ذلك، فإنني لا أظن أننا اليوم ننجح في قراءة التغيرات الجارية التي انطلقت مع الانفجار العنيف الذي انبثق من قلب ركام القرون الماضية من الهزيمة والاستعمار والفشل، وفشل الدولة الوطنية تحديدا، التي أخفقت في الوفاء بأي من وعودها، وقد ظلّت أسئلة معلقة منذ الهجمة الاستعمارية، ثم محاولات التحديث الفوقية، لم يكن بالإمكان الإجابة عليها، إلا بإعادة نثر أوضاعنا بكل ما فيها، ثم يُترك لعملية التدافع التاريخي أن تُخرج من رحمها حلول النَظْم الجديدة.
وليس ثمة حاجة بعدُ للسؤال عن المخلّص، أو الحل المتجسد في جهة، أو هيئة، أو دولة، أو رجل، أو فكرة، فهذا التصوّر قد انهار أولا في الانهيار الجاري، بعدما استنفدت الأيديولوجيات ما لديها، وأدّت الهيئات والجماعات القديمة مهمتها التاريخية.
واتسعت الآن دائرة الفاعلين لتشمل الجماهير، والناس العاديين، في كل مجال، من مجال القول والفكرة، إلى مجال البندقية والقتال، إذ إن الانفجار الحالي أضخم من أن تستوعبه الدوائر القديمة الضيقة، بعوالمها الصغيرة الضيقة، من جماعات وأفكار.
وثانيا، فنحن لم نزل في السنوات الخمس الأولى، من عملية التحول هذه، والتي يصعب فيها إدراك المجالات التي يقع فيها التحول، كما يصعب أن نستشرف الأطروحة التي سوف تنجم عن هذا التدافع التاريخي، وإذا كنّا أساسا قد فشلنا في إدراك مقدمات هذه المرحلة، وفي التنبؤ لها، فهل ندرك الآن فعلا طبيعة التحولات الجارية!؟ وهل ندرك ماذا تطال من أنماط تفكيرنا، وثقافاتنا، وتصوراتنا، ورؤيتنا لأنفسنا والعالم!؟
ثمّ، أليس انكشاف فساد الأوضاع القديمة، أو انتهاء صلاحية الكثير من الحلول والأفكار والمحاولات التي جُعلت للأوضاع القديمة؛ ضرورة تمهيدية، لا بدّ وأن تتسم بالانفجار والانهيار، للتأسيس لمرحلة جديدة؟
ونحن الآن بالفعل، لا نكتشف فساد الأوضاع القديمة فحسب، ولكننا نتخلص منها فعلا، ولا نتخلص منها بأدوات نخب وطلائع وتنظيمات، بل نتخلص منها بأيدي الجماهير والناس العاديين، وبتداخل كل الأفكار والمحاولات مرّة واحدة.. إنها أكثر حالات التدافع كثافة.
إن الزلزال قد طالنا نحن العرب جميعا، لأننا نشبه بعضنا، وبعيدا عن صور التشابه التي قد تُرمى بالأدلجة والاختراع والتخيل والتوهم، فإننا على الأقل، ونحن الذين نلتصق ببعضنا جغرافيّا، ونحكي اللغة ذاتها، ونلتقي في الثقافة ذاتها؛ فإننا نتشابه في المشاكل نفسها، ونعاني القضايا ذاتها، وخضنا تجاربنا الحديثة على نحو متشابه.
وإذن لا وجه للغرابة في أن يخلخل الزلزال مواضع أقدمانا حيثما كنا في مجالنا العربي، ولا وجه للغرابة في أنه لن يفعل الفعل ذاته في غير مجالنا، لأن مشاكل العالم ليست هي مشاكلنا ذاتها.
ولكن، هذا لا يعني أن العالم لن يتغير معنا، فحينما تغيرت أوروبا تغير العالم كله، لا على صورتها، فالعالم ليس أوروبا، والمشترك هو حصول تغيّر لا مقدماته ولا شكله ولا نوعه، ونحن إذ نتغير اليوم، فإن العالم يتغير، دون أن يمر بتحولاتنا ذاتها ودون أن يتخذ شكل مآلاتها، وما العالم إلا سلسلة من الانهيارات تتبعها حلقات من الاستقرار، وقد أسس انهيار العالم القديم في سبعينيات القرن الماضي لانتصار الرأسمالية الغربية، وصعود الإحيائية الإسلامية، وما كانت العقود الأربعة الماضية إلا تمهيدا لهذه الفاتحة الدامية.
لكن يجب ان نحاول فهم ما يجري. لا نريد ان نكون متشائمين. ولكن لا نريد اصطناع التفاؤل. فهل من الطبيعي ان الجميع لا يستطيع ان يضع يده على محددات موجودة في الواقع وتشير الى الصعود والتحول الايجابي؟ ام انه انهيار وفقط؟
مراقب
الثلاثاء، 25-10-201601:54 م
لكل امة ظروفها واواضاعها .. هناك مشتركات انسانية بين البشر .. وهناك سنن وقوانين واحدة .. ولكن يجب ان نفهم ان كل شيء ابن ظرفه وبيئته .. الناس تتاثر ببعض ولكنها لا تخوض نفس الظروف .. احسنت