تحدث الشاب المصري الموجوع بألم وحرقة عن أحوال بلده المتردية فانتشرت كلماته مثل النار في الهشيم، وسجلت مئات آلاف التدوينات في الساعات الأولى تعيد نشرها وتقول إن هذه الكلمات تعبر تماما عما يحتبس في نفوس أصحابها.
من الطبيعي أن يلقى فيديو "خريج التكتك" هذا التفاعل الواسع، فقد جاءت قوة انتشاره متناسبةً مع قوة الروح التي امتلأ بها الشاب وقوة الوجع الذي يتدفق من كلماته، وقد عرف أن ما خرج من القلب وصل إلى القلب.
هذا الشاب المصري لم يجهز لكلماته ولم يتلق دروسا في فن الخطابة ومهارات البلاغة إنما عبر في لحظة تدفق حر عن شعوره الطبيعي بالظلم والقهر والحرقة على مصير بلاد كانت اليابان تدرس نهضتها قبل مائة عام فقط، وكانت بريطانيا تستدين منها وكانت تنشئ السكك الحديدية، ثم آل حالها إلى أن يصطف أبناؤها في طوابير الأرز والسكر، لذلك فقد أثارت صرخاته الصادقة أوجاعاً حبيسةً في صدور من يشعرون بمثل شعوره لكنهم كانوا عاجزين عن إطلاق ما تختنق به صدورهم فلما أجرى الله الحديث على لسانه كان معبراً بصدق عن الحس الثوري الكامن في شعب قهرته ظروف المعيشة لكنه لم يفقد حلمه بالحرية والكرامة، وربما كان صدق الشاب الكامل هو ما دفع الإعلامي عمرو الليثي إلى المخاطرة بنشر المقطع على قناة الحياة مع ما يتضمنه من مضامين محظورة في دولة البوليس والعسكر التي تراهن في بقاء حكمها على تغييب صوت الشباب النابض بحب الحياة والحرية خشية أن يكون محرضاً للساكتين على الثورة، لكن لحظات الصدق تستثير بقايا الخير الغائرة في النفوس، وفي المواقف التي تتجلى فيها الحقائق نقيةً من أي شبهة والتباس ولا تحتمل تزييفاً أو تكذيباً فإن كل من بقي في نفسه شيء من الإحساس الأخلاقي لا يسعه إلا الإذعان والخشوع أمام سلطان الحقيقة الساطعة.
لقد مثل الشاب لحظة الصفاء والصدق الفطري لأنه تحدث بوصفه إنساناً وحسب، لم يتحدث بصفة أيديولوجية أو حزبية ولم ينمق كلماته كما يفعل المحللون والخبراء إنما تحدث من واقع الوجع الإنساني، تحدث بقلب المحب لوطنه الغيور على رفعته المفجوع بسوء مآله، لم يترك الشاب بتلقائيته فرصةً لتأويل كلماته بأنه جزء من حالة استقطابية يستعملها الاستبداد لترسيخ شرعيته وإطالة أمد حكمه ويحاجج بها أنصاره لتبرير رضاهم عن سياساته، ولم يقتحم مناطق الجدل السياسي التي ينشغل بها الناس فيغفلون عن قضيتهم الرئيسة، لم يسب الشاب ولم يلعن حتى لا يشتت الانتباه عن عدالة قضيته، تكلم بأدب جم لكن باحتراق عن واقع يبصره الجميع ولا يجرؤ أحد على إنكاره. لقد تحدث كإنسان وحسب، فعبر عن لحظة الصفاء الثوري، وأسفر عن الحقيقة المجردة للمعركة، إنها ليست معركة أيديولوجيات وأحزاب وحسابات إقليمية ودولية، بل هي معركة بين الإنسان وقوى القهر والاستبداد الجاثمة على صدره، هي معركة بين البحث الفطري عن الحرية والكرامة وبين تسلط أعداء الحرية والكرامة، هي معركة بين الحالمين بوطن عزيز وبين قتلة الأحلام الذين يزرعون في عقول الشباب كوابيس مرعبةً تقتل كل خيال جميل.
حين قاطع الإعلامي عمرو الليثي الشاب بسؤاله: "خريج إيه؟"، أجابه الشاب بذكاء فطري وسرعة بديهة: "أنا خريج تكتك، بس سيبني أكمل.."، لقد كان هذا الشاب الذي غدا موسوماً في مواقع التواصل الاجتماعي باسم "خريج التكتك" ملهماً في إجابته، إذ حملت إجابته القصيرة دلالات مكثفةً، فهي أولاً طريقة احتجاجية على محاولة التصنيف، فكأنه يقول: "لماذا تصرون على تصنيفنا، أنا إنسان وكفى، إن حقي في الكلام مرده إلى إنسانيتي وليس إلى من أكون"، وهي تشير ثانياً بطريقة ذكية إلى الواقع البائس للشباب في مصر إذ ما قيمة الشهادات والجامعات في ظل واقع الفقر والبطالة وانعدام فرص العمل في هذا البلد، كما أن حال الشاب يثير مقارنةً مؤسفةً إذ تنبئ كلماته بثقافة عالية فإذا كان هؤلاء الشباب المثقفون والغيورون على وطنهم سائقي تكاتك وكان سفلة القوم إعلاميون فأي قهر وظلم وسوء توزيع يتسع له هذا الوطن العريق!".
لقد أبكانا "سائق التكتك" دون أن نعرف اسمه، وأثار في نفوسنا كوامن الأسى على وطن ننتظر منه أن يقودنا في معركة النهضة والحضارة وأن يصنع لنا بين الأمم مكانةً تليق بنا، لكن الجانب المشرق هو أن بلادنا بخير، وأنه ما دام بيننا مثل هذا الشاب ممن يحملون هذه الروح القوية من الانتماء الصادق لوطنهم والوجع الحارق على مصابها فإن المستقبل للشعوب لا لجلاديها وإن هؤلاء الشباب جديرون بأن ينتصروا ويمكَّن لهم ويأخذوا بأيدي شعوبهم إلى التقدم والازدهار.
أما الدرس الذي ينبغي أن تستفيد منه القوى الوطنية المختلفة فهو أن الوطن أكبر منها، وأن نبض الشعب أصدق من خطاباتها المنمقة، وأن المواطن البسيط بصدقه ومباشريته ولغته المفعمة بالمشاعر الإنسانية هو أقوى من كل عددها وعتادها وهو أكبر محرض على الغضب والثورة، هذا المواطن يستعصي على الاحتواء والاصطفاف والتدجين، وهو يعبر عن مشاعره بصدق ونقاء دون حسابات معقدة وخطط باردة، هذا المواطن قد يطول صمته لكن في اللحظة التي تتراكم فيه عوامل الانفجار فإنه لا يستأذن أحدا ولن يكون أمام أي قوة في الموالاة أو المعارضة إلا أن تنحاز إليه وتتعلم منه فهو المبتدأ وإليه المنتهى.