تنشأ الفكرة عادة نقية صافية بريئة مهما كان منبتها خارجيا أو داخليا لكنها سرعان ما تعرف خلال تطورها وتطور مسارها تعرجات شتى فتتشوه وتوظف وتوجّه ويعتوِرها ما يعتوِر الكائنات الحية من السقم والعلل. وكذا الفكرة
القومية رغم نشأتها المشبوهة وقد جاءت لضرب الحاضنة الجامعة للأمة خلال العقود الأولى من القرن الماضي عندما عملت بريطانيا خاصة على تقطيع أوصال الخلافة العثمانية بفصل المكوّن
العربي عن المكوّن العثماني وتشجيع العرب على الثورة قبل أن تجهز عليهم بمشروع سايكس بيكو.
كانت الفكرة القومية في بداياتها جامعة وقد استثمرت بشكل كبير حالة الانكسار التي تعاني منها الأمة بفعل الاحتلال
العسكري الاستعماري المباشر فرفعت شعارات كانت كالماء في صحراء الموت التي خلفها الفعل الاستعماري. استفادت الفكرة القومية كذلك من فعل الاحتلال الصهيوني لفلسطين وعزفت على وتر المقاومة فاكتسحت كامل أفق الانتظار العربي وتحولت إلى عقيدة تحجب غيرها من المرجعيات الفكرية ومن المشارب النظرية.
لكن ورغم الفشل الكبير والانكسارات العميقة التي عرفتها الممارسة السياسية القومية في فجر نشأتها واندساس العناصر المخربة إلى داخل الجهاز التنفيذي القومي في مصر وليبيا وسوريا فإنها حافظت على بريقها بفعل الأبواق الضخمة التي كانت لها وبفضل غياب أدوات التواصل الشعبي وانتشار التجهيل والتزييف وثقافة الاستبداد بشكل واسع.
فرغم فشل الوحدة السورية المصرية بسبب مرض الزعامة الذي كان عبد الناصر يعاني منه ورغم ما مارسه القوميون الوحدويون العرب من مجازر في حق مخالفيهم من الشيوعيين والإسلاميين والعروبيين أنفسهم فإن الفكرة القومية لم تكشف عن حقيقة تورّمها وفسادها وتشوهها إلا مؤخرا حيث كان ربيع الشعوب العربية آخر المسامير في نعش الفكرة المشوّهة وفي نعش الممارسة السياسية المرتبطة بها.
لم تكن الموجة الثورية الأولى التي ذهبت بعرشيْ "بن علي" في تونس و"مبارك" في مصر قادرة على كشف زيف واحد من أكبر المخازن النضالية التي أثثت الساحة العربية خلال أكثر من نصف قرن من الزمان. فكانت الموجة الثورية الثانية بدمويتها وطابعها المسلح والعنيف في ليبيا أولا وسوريا ثانيا كاشفة عن حجم الضلال والزيف الذي ميز ما يسمى "بالحركة القومية العربية" سواء على مستوى الفكر والخطاب أو على مستوى الممارسة.
في ليبيا تحرك الطابور الخامس القومي مبكّرا وقد تسلح بنظرية المؤامرة للدفاع عن واحد من أشرس الأنظمة الاستبدادية الشمولية العربية ممثلا في نظام العسكري العقيد. أما الثورة السورية العظيمة فقد كانت فعلا كاشفة عن حجم الضلال والخيانة الذي ضرب هذا الفكر المشوه بأن اصطف المسترزقون منه ومن أدبياته البائسة إلى جانب الطاغية وهو ينكل بشعبه ويجلب اليه أصناف المجرمين وأنواع المليشيات وفرق الموت الطائفية لتصفي كل مطالب الحرية والتحرر من نظام هو الأكثر دموية في التاريخ العربي الحديث
لن نتحدث هنا عن شعارات الفكر القومي في محاربة الرجعية والدعوة إلى الحرية والكرامة ومقاومة الاستعمار وبناء الدولة الوطنية والدعوة إلى الوحدة العربية وغيرها من الشعارات التي بان خواؤها وظهر زيفها وزيف مدعيها. لن نتحدث عن تسلّح الخطاب بمحاربة الصهيونية والاسترزاق من القضية الفلسطينية ومن معاناة الشعوب. لن نتحدث عن ممارساتهم السياسية الكسيحة في العراق وسوريا وليبيا.. التي حولت الأوطان خرابا لا عمار فيه ولا عن مصر عبد الناصر الذي باع السودان وسلم سيناء ودمر مصر وربطها ربطا لا فكاك منه بعصابة العسكر التي أخرجتها من الصراع العربي الصهيوني وتحولت العصابة سرطانا ينخر الجسد المصري العليل.
استفهامات كثيرة أثارها ربيع العرب
كيف يمكن لأكثر المنظرين للثورات وللنضال الثوري أن يظهروا ألد أعداء الثورة والثورات؟ كيف يسترزق هؤلاء عقودا من الثورية ومن النضال ضد الرجعية وعندما هب رياح الثورات يهرع هؤلاء إلى أحضان الاستبداد وإلى رفع أغلال العسكر؟ كيف يتحالف العروبي مع المشروع الفارسي الضارب بتوحش في قلب البيت العربي بالعراق ولبنان وسوريا واليمن؟ كيف يعادي هؤلاء عرب الخليج رغم كل ما قدموه للأمة ولشعوبها ويصطفون إلى جانب المشروع الفارسي في الخليج العربي رغم كل جرائم الفرس في حق العرب والمسلمين؟
أسئلة كثيرة ما كانت لتثار لولا ثورات المسحوقين وربيع الشعوب التي كانت إلى وقت قريب تعتقد في نضال النخب الثورية والقومية منها بشكل خاص وفي صدق نواياها. لكنه ورغم ارتباط الحركة القومية فكرا وممارسة بالنظام الاستبدادي العربي في شكله الأكثر دموية وهو النظام العسكري ومنذ وقت مبكر جدا فإن انكشاف زيف الممارسة السياسية لدعاة الفكر القومي ما كانت لتنكشف بالوضوح التي عليه اليوم لولا الثورات العربية المباركة.
لقد صنع العسكر ـ خاصة مشرقيا ـ سياجا سميكا من النخب التي جعلت من الفكر القومي عقيدة قاعدية توظِّف الحس الوطني لدى الجماهير ولدى الصادقين من الأفراد لتحوله إلى نطاق مغلق أشبه بالعقيدة المتحجرة التي لا تقبل التطور رغم كل التشوهات التي طرأت عليها.
بهذا الفعل وبفعل التطور التاريخي الطبيعي للسياقات الفكرية وللممارسة السياسية المرتبطة بها تحجرت الفكرة القومية وانحصرت في صورة الزعيم الخالد والبطل المنقذ والقائد الفذ وملك ملوك أفريقيا ... وغيرها من التسميات التي تغطي أمرضا نفسية مستعصية وانتفاخا للأنا بلغ حالة الجنون.
لقد قيل دائما وعن صدق أنّ أعظم إنجازات ربيع الشعوب هو ما أنجزه لصالح الوعي العربي الشعبي ولعلّ كشفه لزيف الممانعة والمقاومة ومحاربة الرجعية والصهيونية والتدثر بالقضية الفلسطينية كما تتغنى بذلك الحركة القومية وأبواقها هي واحدة من أعظم إنجازاته رغم كل الخراب والدمار الذي تسبب فيه القوميون وأنظمة العسكر المرتبطة بهم في ليبيا وسوريا والعراق ومصر.
فأنظمة المقاومة والممانعة لم تكن في الحقيقة أنظمة استبدادية دموية فحسب بل انكشفت جزءا أصيلا من المشروع الاستعماري الروسي والصفوي والصهيوني الذي تدعي كذبا محاربته. إنها أسمك الحلقات في أغلال العسكر الاستعماري مصريا كان أم روسيا بل فارسيا كان أم روسيا.