بخلاف باقي الأيام التي تتعامل فيها الجهات الرسمية والإعلام التابع لها مع المقاطعين للانتخابات بتجاهل متعمد وإقصاء، لا يحرمهم من إسماع صوتهم في الفضاءات العمومية فحسب، بل يصل إلى التلاعب الفج في أرقامهم، كما يحدث لغير المسجلين منهم في اللوائح الانتخابية الذين تصر الداخلية المغربية في كل مرة على عدم احتسابهم في نسبة المقاطعين، كأنهم أموات أو كائنات من كوكب آخر، فإن الصورة تصبح مغايرة تماما قبل أي موعد انتخابي، حيث ينفق الكتاب والسياسيون المرتبطون بالسلطة وقتا وجهدا كبيرين في السجال مع أنصار المقاطعة، سواء مع الإطارات السياسية التي تتبنى هذا الخيار أو مع عامة المغاربة الذين لم تعد تغريهم دعاية السلطة، وأصبحوا من فرط بؤسهم واكتوائهم بالوعود الكاذبة والشعارات الجوفاء يمتنعون عن التفاعل مع تلك المحطات.
هذا التباين الملحوظ قبل وبعد الانتخابات غير مقبول، فإذا كانت المقاطعة غير مؤثرة، وأنصارها مجرد أناس سلبيين - حسب زعمهم - إلى الحد الذي يتم غض الطرف عنهم وتغييبهم عن المشهد، لماذا يتم التحرش بهم بقوة وقت الحملات الانتخابية؟
الحقيقة أن السلطة خسرت منذ زمن رهانها بخصوص مشاركة وازنة تضفي المصداقية لمؤسساتها، وبدل اللجوء إلى الدفاع عن خياراتها؛ اختار أنصارها مبدأ الهجوم ورمي الكرة في ملعب خصومهم، ظنا منهم أن هذا أسلوب جيد لتبرير إفلاسهم وإحراج معارضيهم من خلال إيهام المغاربة بأن لا بديل في الساحة عن طروحاتهم.
على كل حال، يبقى النقاش مشروعا بصرف النظر عن منطلقات الأطراف المخزنية حول جدوى سلاح المقاطعة، وهل يمكن اعتباره بديلا حقيقيا للواقع الراهن. ولا مانع هنا من مساءلة المعارضين خارج النسق الرسمي عن أدواتهم وتكتيكاتهم وعن مدى نجاعتها.
مبدئيا لا بد للقوى المجتمعية الفاعلة الباحثة عن التغيير أن تسعى للتأثير في مجتمعها بكافة الوسائل المشروعة، بما فيها المشاركة الانتخابية والسعي نحو السلطة، وهذا حقها بطبيعة الحال، هذا في الحالة الطبيعية حين يكون هناك معنى للمشاركة، أما في ظل واقعنا المرير، وإقرار جميع من في اللعبة بسيطرة المؤسسة الملكية المطلقة وتدخلها في كل شاذة أو فاذة، واحتكارها لجل مقدرات المغاربة، فضلا عما تتمتع به المؤسسات المرتبطة بها من نفوذ، فأي كائن منتخب في مثل هذه الظروف لا يعدو أن يكون مجرد خادم للجهات النافذة.
ومع كل هذا، ما زال البعض يستمر في التدليس على الناس، حيث يبرر انخراطه في المؤسسات الرسمية رغم أعطابها؛ بمواجهة لوبيات الفساد والتحكم أو عدم ترك الكرسي فارغا لأصحاب الأجندات المشبوهة ومن يريد أن يعبث بهوية المغرب، ويعتبر المقاطعة نكوصا عن أداء الواجب وانهزامية واستسلام، فيما الحقيقة عكس ذلك تماما، حيث أن المتحكمين الحقيقيين أكبر من أن يتواجدوا في مؤسسات صورية حتى تتم مواجهتهم فيها.
كما أن هوية المغرب بيد القصر وليست بيد أي حزب أو زعيم سياسي، بدليل أن حكومة العدالة والتنمية لم تزد شيئا في إسلامية المغرب، بل إننا شهدنا عجزا فاضحا عن مواجهة استفزازات خصومهم في هذا الباب والتي زادت جرعتها في عهدهم، وكذلك الأمر بالنسبة لحكومة الاتحاد الاشتراكي العلمانية التي أنهت ولايتها دون أن تتمكن من تنزيل تصوراتها المجتمعية في سياسات حكومية.
لا معنى إذن لكل الهلع الذي يثيره البعض بالتخويف من الخصوم الإيديولوجيين، لا سيما أولئك الذين يحظون بمعاملة تفضيلية من طرف الداخلية، كما في حالة البام الذي يبقى حزبا من الأحزاب المبثوثة في الخريطة، وإن تم دعمه في الظرفية الراهنة، إلا أن هذا لا يؤهله لتجاوز الإطار الذي تم وضعه فيه، ففي النهاية يظل صانع القرار الحقيقي أكبر من كل الأحزاب، وكلمة الفصل للمؤسسة الملكية وأي تحول جزئي أو كلي إن طرأ هي من تتحمل مسؤوليته.
لذلك لا داعي للاختباء وراء الحقائق الساطعة، فلا يستطيع أن يشكل أحدهم ضغطا على الملكية باستثناء الفاعل الخارجي أو الشارع في حالة حراك قوي منظم.
ما يجري حقيقة لمن يدخل تلك المعمعة البرلمانية أنه يستنزف طاقاته في العراك مع البيادق وصغار المفسدين، أي أنه عمليا يغطي على الفساد والاستبداد الحقيقي، من خلال شغل المغاربة بمعارك تافهة غير ذات قيمة تحورهم عن مشاكلهم الجوهرية، وليته يحقق شيئا ذا بال فيها، حيث يغرق في دوامة من التنازلات التي لا تنتهي حتى يفرغ شعاراته من مضامينها لتصبح مجرد ألعوبة ومطية يستحضرها وقت ما شاء، لدرجة بات بعضهم يفصل على مقاسه التعريفات والتصنيفات حول الفساد وأهله بحسب تحالفاته الراهنة والمستقبلية التي تخضع للتحيين الدائم.
عموما لا مشكلة عند القوم في هذا المستوى من التردي، والذي يظل حسب رأيهم أحسن من خيار المقاطعة، فالأعمش أفضل من الأعمى مثلما يقولون، وهذا أسلوب خبيث يفرض علينا خفض سقف توقعاتنا إلى أدنى مستوى حتى نرضى بأي شيء تافه قد يتحقق وقد لا يتحقق وسط الكبائر التي يقترفونها بحق شعبهم، وكأن قدر المغاربة أن يعانوا من الإعاقة الأبدية.
ما ينبغي أن يفهمه هؤلاء أن المقاطعة لم تكن يوما عمى أو عدمية سياسية، المقاطعة وسيلة احتجاجية معروفة لم يبتدعها المغاربة، هي تعبير تلقائي عن رفض مناورات الأنظمة الاستبدادية وعدم إعطائها الفرصة لشرعنة مؤسساتها المزيفة.
فبعد أن أدركت تلك الديكتاتوريات أنها لم تعد تستطيع إحكام قبضتها على شعوبها بوسائلها التقليدية، آثرت أن تستورد بعض الأشكال الجديدة لكنها فرغتها من مضمونها، لذلك ما كان لعاقل أن يجاريها في مشاريعها الاحتوائية وأن يخنق نفسه بنفسه.
نعم لن تنتهي مظلمة الشعب المغربي بمجرد مقاطعة الانتخابات، ونعلم أن بإمكان النظام فرض من يشاء سواء شارك الشعب في الانتخابات أم قاطع، إلا أن الرسالة القوية التي سيستقبلها المخزن بالمقاطعة أنه أمام شعب لا يقبل الاستغفال، وهذا يعني أن المقاطعة تعيده للمربع الأول الذي كان فيه والذي عمل جاهدا للخروج منه وصرف من أجل ذلك ولا يزال الملايير حتى يقدم نفسه بصورة عصرية أمام شعبه وأمام الخارج.
الأهم مما سبق أن المقاطعة تدفعنا لوضع القطار على السكة الصحيحة، حيث تزيل عنا الغشاوة التي أصابتنا بسبب انخراطنا في مسار غير سالك، لأن المشاركة في المؤسسات الرسمية لا تقتصر على ملء صندوق الاقتراع فقط، فهي تغرقنا في آمال كاذبة وأوهام يسهل معها التلاعب بنا بسهولة من خلال الابتعاد عن مكمن الداء والالتهاء بمتابعة صراعات وهمية بين كومبارس لا يقدم ولا يؤخر، أما حين نحسم في عبثية تلك اللعبة فهذا معناه أننا نصبح أكثر مناعة من أن توجهنا الدعاية المخزنية.
مقاطعة الانتخابات إذن قيمة مضافة تنال من شرعية النظام الحاكم وتعتبر المدخل الطبيعي للتغيير الحقيقي المنشود، فكما كانت 20 فبراير نتيجة طبيعية لإعراض غالبية المغاربة عن المؤسسات المخزنية، فكذلك سيكون الحال لو تقلصت نسبة المشاركة أكثر فأكثر، لأن التجربة علمتنا أن النظام المغربي لا ينصاع إلا للشارع، ذلك أن جل التنازلات التي أقدم عليها في السابق كانت تحت ضغط الانتفاضات الشعبية.