أطلق علماء
الشريعة الإسلامية على الأحكام والتشريعات الخاصة بتدبير شؤون الدولة الإسلامية، في الداخل والخارج اسم "السياسة الشرعية" بحسب باحثين شرعيين.
وذكر الفقهاء لهذا المصطلح عدة تعريفات، من أشهرها ما قاله الفقيه الحنبلي ابن عقيل في معرض تعليقه على ما قاله فقيه شافعي: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع"، فعلق بقوله: "السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا نزل به وحي..".
وأضاف ابن عقيل موجها كلامه للفقيه الشافعي: "فإن أردت بقولك "إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت: "لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة.." ذاكرا ما جرى منهم، وما فعلوه تحقيقا لمصلحة المسلمين، كجمع الخليفة الثالث عثمان بن عفان للقرآن، وتحريق المصاحف الأخرى".
يُظهر ذلك اللون من الجدل الفقهي، أبرز الاتجاهات الإسلامية في تعاطيها مع الشأن السياسي، بين اتجاه يجمد على ما جاء به النص الديني فيكون شرعيا مقبولا، وبين من يوسع الدائرة ليدخل فيها كل ما حقق مصالح العباد، وكان مبعدا لهم عن الفساد، بما وافق الشرع، وشهد له بقواعده ونصوصه العامة.
ووفقا لعميد كلية الشريعة في جامعة جرش الأردنية، حسن شموط، فإن "السياسة الشرعية هي الموضوع الرئيس للأحكام السلطانية، ويعني بها الفقهاء في استخداماتهم الفقهية الأحكام والتصرفات التي تُدبر بها شؤون الأمة في حكومتها وتنظيماتها وقضائها وسلطتها، وعلاقتها بغيرها من الأمم في الدولة الإسلامية وخارجها".
وجوابا عن سؤال "
عربي21": هل
الأحكام السلطانية أحكام شرعية ثابتة أم إنتاج فقهي محكوم بزمانيته؟ أوضح شموط أن "الأحكام السلطانية تنقسم إلى قسمين: الأول يتضمن أحكاما شرعية جاءت بشأنها نصوص شرعية تنظمها، وتبين أركانها وشروطها، والثاني: أحكام اجتهادية قابلة للتغيير والتعديل بحسب الزمان والمكان، وبخاصة المتعلقة ببعض الأمور التنظيمية والإدارية".
الأحكام السلطانية: قطعية واجتهادية
في السياق ذاته، أكد الأكاديمي السعودي، المتخصص في العلوم الشرعية، الشريف حاتم بن عارف العوني، أن من الأحكام السلطانية ما هو قطعي ولا يجوز تعديله أو الإضافة إليه بحال، ومنها ما هو ظني اجتهادي منوط بزمانيته وسياقاته التاريخية، ومداره على تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
واستشهد العوني بما قاله الإمام الجويني: "ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسلك القطع، خلية عن مدارك اليقين" على أن غالب موضوعات السياسة الشرعية هي اجتهادية متجددة بحسب زمانها وسياقاتها الموضوعية.
وبيّن العوني لـ"
عربي21" أن "الأحكام السلطانية" باب من أبواب
الفقه الإسلامي، وهي تخضع كغيرها من الأحكام الشرعية لقواعد فهم النصوص، وضوابط استنباط الأحكام، ثم يتم إنزالها على الواقع بعد فهمه وتصوره تصورا صحيحا.
وبما أن معظم مسائل السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية تقع في دائرة الأحكام الاجتهادية المتجددة، فما هي أبرز قضاياها وموضوعاتها التي تحتاج إلى تجديد فقهي في زماننا بحسب الوقائع المستجدة والمعطيات الحديثة؟
رأى الشريف العوني أن ثمة قضايا كثيرة تحتاج إلى اجتهاد فقهي يناسبها، كنسق الدولة المعاصرة، فثمة جدل كبير يدور حول تحديد طبيعة الدولة، بعيدا عن النماذج الغربية في مدنيتها المطلقة أو صفتها الكهنوتية الدينية، والاجتهاد في اجتراح تصور إسلامي يستند إلى الأصول الشرعية مع الأخذ بالاعتبار التطورات المستجدة في النظم السياسية المعاصرة.
وذكر العوني أمثلة أخرى لمسائل مستجدة في الشأن السياسي، تحتاج إلى اجتهادات فقهية معاصرة، كتحديد طبيعة العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى، وتحديد الموقف الفقهي من الديمقراطية، وآلياتها ووسائلها، كالانتخابات التي يراها أداة محايدة، ولا يلزم من الأخذ بها الالتزام بالحمولة الفكرية والفلسفية للديمقراطية.
وردا على سؤال: كيف ينظر إلى دعوات تجديد الفقه السياسي السني، خاصة ما يتعلق منه بالأحكام السلطانية؟ أكدّ العوني أن مسائل الفقه السياسي السني من أكثر الموضوعات التي تحتاج إلى تجديد، وتتطلب بحوثا فقهية معاصرة تقدم اجتهادات شرعية تحقق مصالح المسلمين.
وفي هذا السياق، تُثار انتقادات شديدة ضد نظرية طاعة ولي الأمر وإن جار وظلم رعيته، والتي تشكل سقفا يقيد أداء المسلمين السياسي، بحسب مثقفين، فكيف يناقش علماء وأساتذة الشريعة ما يقال عن أن أداء المسلمين سيبقى مقيدا بأغلال هذه النظرية، ما يعني استبعاد التأسيس لفقه سياسي آخر، أو تجديد مقررات الفقه القديمة، لإخراج الأمة من مضايق تلك النظرية؟
أجاب الأكاديمي الشرعي الأردني، حسن شموط، بأن "مسألة طاعة ولي الأمر مرتبطة بعدة أمور، منها مدى تحقيقه للعدل وابتعاده عن الظلم، ومنها مدى تحقق الأمن وما يترتب على عصيانه من مفاسد عديدة وكثيرة".
وتابع شموط: "وقد اختلف السلف والخلف بشأن هذه المسألة، وستبقى مدار خلاف بحسب فهم العلماء والفقهاء للنصوص الشرعية التي تدعو لطاعة ولي الأمر"، مستدركا بقوله: "لكن الأمر المتفق عليه أن طاعة ولي الأمر لا تكون في معصية الله أبدا".
وحول إمكانية التأسيس لفقه سياسي سني جديد يخرج الأمة من أغلال نظرية طاعة الأمر مطلقا، أشار شموط إلى أن هذا اللون من الفقه موجود، لكنه مخالف لما عليه جمهور أهل العلم، "وربما الأحداث التي وقعت في التاريخ الإسلامي (الخروج على الأئمة بالسيف)، جعلت الكثير من الفقهاء يتمسكون بنظرية طاعة ولي الأمر".
يُشار في هذا السياق إلى أن الحديث النبوي الذي جاء في بعض جمله "وإن جلد ظهرك وأخذ مالك"، لا يفهم منه طاعة ولي الأمر في ظلمه وبطشه وتعديه على حقوق العباد، وإنما المراد منه إن أخذ مالك بحق، وجلد ظهرك بحد شرعي صحيح، وإلا فإن هذا الحديث بحسب ذاك الفهم، يتعارض مع نصوص وقواعد شرعية، نهت عن الظلم، وأمرت بالتعاون على البر والتقوى، وحذرت من التعاون على الإثم والعدوان، كما في إقرار ولي الأمر على ظلمه وبطشه وتعديه، وفقا لباحثين شرعيين.
السياسة الشرعية تجدد دائم لتحقيق المصلحة
بدوره أوضح أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في جامعة العلوم الإسلامية الأردنية، وليد الشاويش، أن السياسة الشرعية تقوم على النظر في الشأن العام، ومدارها على تحقيق مصالح المسلمين، وتصرفات الإمام منوطة بالمصلحة.
ولفت الشاويش إلى أن "الشريعة قادرة على استيعاب كافة المستجدات"، وأن ما لم يرد النص عليه بنصوص شرعية ثابتة، فيمكن إدراجه تحت أصول وقواعد عامة كلية، فكل ما يحقق المصلحة العامة شهدت له الشريعة بدليل عام.
وأضاف الشاويش: "لدينا من القواعد الشرعية العامة ما يسعفنا على استنباط أحكام شرعية تناسب كافة المستجدات، فلضبط السرعة الزائدة على الطرقات، مثلا يمكننا استخدام قاعدة "سد الذريعة"، وما إلى ذلك من قواعد وأصول عامة تندرج تحتها مسائل جزئية عديدة.
وبيّن الشاويش أن الشريعة جاءت بمبادئ عامة ومطلقة فيما يتعلق بمسائل السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية، كالأمر المطلق بالتزام الشورى مثلا، والذي يندرج تحته أفراد وصور كثيرة، يمكننا اعتبار صناديق الاقتراع مثلا أحد تجليات ذلك الأمر، وكذلك انتخاب مجالس إدارية لمؤسسات عامة وخاصة.
وخلص الشاويش إلى القول: "لسنا مقيدين بنماذج تاريخية معينة فيما يتعلق بنسق الدولة وآليات عملها، وتدبير شؤون المسلمين، لأن الأحكام المتعلقة بمسائل الإمامة والسياسة الشرعية والأحكام السلطانية، متجددة بحسب المصلحة، فما رآه المسلمون يحقق مصالحهم الدينية والدنيوية ولا يتعارض مع شريعتهم فلهم أن يأخذوا به. ويعملوا بمقتضاه".