لم يعد يفصل عن
الانتخابات البرلمانية المرتقبة بالمغرب شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل سوى أربعة أسابيع، وذلك وسط تقاطب حاد بين معسكر القوى الديمقراطية المراهنة على تقدم الانتقال الديمقراطي في
المغرب، وبين قوى النكوص والسلطوية والتي تروم جر المغرب إلى الوراء من خلال العديد من الوسائل التي تعبر بشكل أو بآخر عن ممارسات استبدادية بعيدة كل البعد عن منطق التنافس الشريف المحتكم لإرادة الناخبين والاختيار الحر، وهي الحالة التي شبهها عاهل البلاد محمد السادس في خطاب العرش الأخير بنوع من الاستغراب"وكأنها القيامة".
وبغض النظر عن المؤشرات التي اعتمد عليها الملك محمد السادس لتشبيه حالة التقاطب بيوم القيامة، ودعوته المبطنة إلى اعتبار نزال 7 أكتوبر محطة عادية، فإن الوقائع والمؤشرات تؤكد بالفعل أن الانتخابات المقبلة تشبه القيامة خاصة بالنسبة للمعسكر السلطوي أو ما يوصف بالدولة العميقة أو التحكم أو دولة داخل الدولة، والذي مر إلى سرعته القصوى في معركة كسر العظام بالتوظيف السيئ للقانون والإعلام أو حتى أساليب الضغط والترهيب والتهديد، في مساع حثيثة لإغلاق قوس الانفراج الديمقراطي الذي عرفه المغرب إبان حراك "20 فبراير" وما أعقبه من استجابة ملكية بخطاب 9 آذار/ مارس وصياغة دستور جديد في فاتح تموز/ يوليوز، إلى انتخابات 25 تشرين الثاني/ نونبر التي أعطت الصدارة وقيادة الحكومة لحزب العدالة والتنمية.
المشهد السياسي في المغرب اليوم يقدم العديد من المؤشرات المقلقة والتي قد تمس في العمق جوهر العملية الانتخابية.
المؤشر الأول: توظيف القانون
على هذا المستوى، عمدت وزارة الداخلية إلى اقتراح تخفيض العتبة الانتخابية من نسبة 6 بالمائة إلى 3 بالمائة، وهو الاقتراح الذي قبل به العدالة والتنمية على مضض ليبعد عنه تهمة نزعة الهيمنة على مقاعد البرلمان (395)، وهو يعي أن هذه الخطوة ستحرمه من عدة مقاعد، حيث أن عملية خفض العتبة هذه ستمكن من مرور أكبر عدد من الأحزاب للبرلمان وهذا يأتي على حساب تشكيل حكومة قوية بأحزاب معدودة، كما يتيح الفرصة لسماسرة الأحزاب للبيع والشراء ولمال الابتزاز أيضا، فضلا عن تضبيب الصورة أمام المواطنين حيث سنكون أمام أزيد من 10 أحزاب بتوجهات وبرامج يصعب فيها تمييز هذا عن ذاك، من خلال اعتماد نسب منخفضة من الأصوات لضمان التمثيلية في البرلمان.
ضمن هذا المستوى الأول، عمدت وزارة الداخلية إلى رفض تأسيس حزب يساري جديد اسمه "البديل الديمقراطي" بدعوى عدم مراعاته لجوانب شكلية، وهو الرفض الذي أكده القضاء الإداري بالرباط، وحتى بعد أن استأنف الحزب اليساري الحكم الصادر ضده وشرع في عملية تأسيس الحزب من الصفر، واجه هذه المرة امتناع العديد من المؤسسات ذات الصلة بوزارة الداخلية من تمكين العشرات من أعضائه من وثائق إدارية جد بسيطة بما فيهم برلمانيين. والمسكوت عنه في هذا الأمر هو أن هذا الحزب انشق مناضلوه عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (معارضة) وهو ما يعني أن ترشح مناضليه سيأكل بالضرورة من أصوات حزب الاتحاد أو على الأقل سيكون له تأثير كبير عليه وهو ما يتعارض وإرادة غير معلنة عند بعض الجهات التي تريد لهذا الحزب المتراجع انتخابيا أن ينجح في الظفر بفريق برلماني (20 نائبا) لأنها مهمة ليست بالسهلة، لكنه رقم قابل للتخفيض بعيد الانتخابات، والأكثر من ذلك أن الحزب الجديد عبر عن اصطفافه إلى جانب القوى الديمقراطية، وأعلن أنه سيواجه الأحزاب السلطوية من قبيل حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسسه صديق الملك ومستشاره الحالي والوزير السابق في وزارة الداخلية فؤاد علي الهمة، وهذا يعني بشكل أو بآخر دعم ولو بسيط للعدالة والتنمية التي يتوقع أن تحتل الصدارة وتقود الحكومة المقبلة.
في المستوى الأول، أيضا، وفي الفترة التي فتحتها وزارة الداخلية لتسجيل المواطنين في اللوائح الانتخابية، أدرجت اجتهادا جديدا وهو القاضي برفض طلبات التسجيل التي تتم من نفس عنوان شبكة الإنترنت، حيث تقبل الوزارة مواطنا واحدا من نفس العنوان وهو الأمر الذي تم رفضه وتم الاتجاه إلى عدم قبول أكثر من تسجيل من نفس البريد الإلكتروني، وهي عملية في المجمل ضيقت على عملية التسجيل، فكانت المحصلة بعد انتهاء عملية التصويت أن أعلنت الداخلية عن أنها قامت بإلغاء أزيد من 130 ألف مسجل في اللوائح الانتخابية وهي نسبة عالية، وأصل هذا الاجتهاد أن شبيبة
حزب العدالة والتنمية قامت في الانتخابات الأخيرة بحملة تواصلية كبيرة لتسجيل المواطنين مما مكنها من تسجيل أزيد من 100 ألف مواطن جديد، بمعنى أنها تقوم بتسجيل عدد كبير من المواطنين، وهو ما جعل كثيرون يتساءلون هل بالفعل هناك رغبة لدى الدولة في الرفع من عدد المشاركين في العملية الانتخابية؟ خاصة أمام رفضها المستمر إلى اعتبار كل المغاربة البالغين للسن الانتخابي (18 سنة) مسجلين في اللوائح بشكل تلقائي.
وزارة الداخلية مرة أخرى وضمن عناصر القلق، أخرجت للرأي العام مؤخرا بيانا تعلن فيه حظر استطلاعات الرأي وهي خطوة تتم لأول مرة، لأن مختلف استطلاعات الرأي التي تجرى في هذه الآونة من الداخل والخارج تعطي الأولوية والصدارة للعدالة والتنمية ورئيس الحكومة عبد الإله بن كيران، وكأن لسان حال الداخلية يقول إنه لا ينبغي تهيئة الرأي العام للنتيجة المنطقية –فوز العدالة والتنمية- خاصة إذا كان هناك سيناريو آخر يعد له، والغريب في هذه النقطة أن وزارة الداخلية جمدت القانون المنظم لاستطلاعات الرأي بالبرلمان، وفي نفس الوقت منعت استطلاعات الرأي، لكنها بالتأكيد لم تمنعها عن نفسها فهي تقوم بها بوسائلها الخاصة باستمرار.
المؤشر الثاني: الضغوط والتهديدات
المؤشر الآخر المقلق قبيل الانتخابات والذي يمس في العمق جوهر العملية الانتخابية ونزاهتها، هو المتعلق بالضغوط والتهديدات التي يتعرض لها عدد من المرشحين البارزين غير المنتمين لحزب العدالة والتنمية والذي اختار هذا الأخير جعلهم على رأس القوائم الانتخابية للحزب بعدد من المدن، من قبيل رجل الأعمال المعروف بوشتى بوصوف والذي تعرض لضغوط وتهديدات وما يزال للتراجع عن ترشحه باسم الحزب الذي يقود الحكومة، وذلك بعدمنا أعلن الطرفان أن هذا المرشح هو من سيمثل "المصباح" رمز العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة، فبقدرة قادر اختفى هذا الرجل عن الأنظار ولم يعد يجيب على الاتصالات منذ أربعة أيام، وتفيد أخبار عدة أنه تراجع عن الترشح بسبب ضغوط من جهات غير حزبية.
نموذج آخر ضمن مؤشر الضغوط والترهيب، ما تعرض له الشيخ السلفي المعتدل حماد القباج والذي ما أن أعلن عن اسمه مرشحا باسم العدالة والتنمية بإحدى دوائر مدينة مراكش حتى أطلق العنان لحملة منسقة من جرائد ورقية وإلكترونية معروفة بخدمتها لأجندة غير إعلامية لتتهمه بالتطرف ومعاداة اليهود وتكفير الناس، والحال أن هذا الرجل من أبرز وجوه السلفية الوطنية الديمقراطية في المغرب بشهادة المنصفين والموضوعيين، ولكن الحكاية وما فيها أن الرجل اختار العدالة والتنمية، واختار مواجهة الانقلاب في مصر ومواجهة من زكاه من السلفيين المغاربة بما فيهم شيخه المغراوي حيث كانت هذه واقعة الافتراق بينهما، فضلا عن رفضه للتحكم في مصائر الناس والسياسيين.
النموذج الثالث ضمن هذا المؤشر الثاني واقعة إعلان ترشح أحد الأطباء وهو أمين عام لحزب العهد الديمقراطي ذي نزعة يسارية ضمن قوائم العدالة والتنمية لتتحرك الآلة الإعلامية إياها متهمة الرجل بالفساد ، وبأن الحزب الإسلامي عليه أن يرشح فقط الإسلاميين موجهين له تهمة الانفتاح، وهكذا كلما حاول حزب بن كيران الانفتاح على أي حساسية فنية أو رياضية أو يسارية إلا وقامت القيامة وتعرض الجانبين لحملة منسقة للنيل من الطرفين والإمعان في تشويه سمعتيهما وشيطنتهما.
المؤشر الثالث: حملات التشويه الإعلامي
مع قرب الانتخابات يتم الهجوم على حزب العدالة والتنمية بشكل غير مسبوق سواء على مستوى عدد المنابر والصحف التي تقوم بالهجوم والتشهير، أو من حيث المعلومات والوثائق المسربة وأحيانا المفبركة، أو من خلال النبش في الماضي وتتبع أدنى هفوة مهما كانت تافهة لتصبح قضية رأي عام على واجهة إعلام بات في حكم المؤكد أن الدولة العميقة وأذرعها الحزبية والإعلامية والاقتصادية نجحت في شراء العديد من المنابر وإنشاء أخرى.
على هذا المستوى، شهدت الساحة المغربية مؤخرا العديد من الملفات التي تحولت إلى حديث الخاص والعام ويتم تضخيمها والنفخ فيها بشكل ملفت وغير مسبوق، وقد كشف عدد من هذه الوقائع لعبة تبادل الأدوار بين جهات في السلطة وعدد من وسائل الإعلام، ومن بين أبرز هذه القضايا على سبيل المثال لا الحصر، واقعة القياديين السابقين في حركة التوحيد والإصلاح التي تجمعها شراكة إستراتيجية بحزب العدالة والتنمية حيث عرفت تجاوزات قانونية عدة، كما استغلت أبشع استغلال للنيل من الحركة والحزب بشكل لا يوصف حيث عمدت الآلة الإعلامية إلى التشهير والشماتة والنيل من خصوصيات المواطنين دون مراعاة لأي حرمة شخصية أو عائلية أو بنود قانونية في الدستور أو في قانون الصحافة والنشر.
الواقعة الثانية هي المتعلقة بالقيادي في العدالة والتنمية الحبيب الشوباني والذي يرأس إحدى جهات المملكة وهو وزير سابق، وليست هذه المرة الأولى، حيث قامت الإدارة بتسريب وثيقة للإعلام تفيد باستفادته من أرض بمساحة 200 هكتار، وهو الخبر الذي أقيمت له الدنيا وأبدع فيه تشويها وتعريضا قبل أن يتضح أن الخبر لا أساس له من الصحة، وأن كل ما هنالك هو طلب تم التراجع عليه، مع العلم أن لاشيء في القانون يمنع ذلك، هذا الأمر تم في سياق اهتزاز الرأي العام بالمغرب على فضيحة ما بات يعرف بـ "خدام الدولة" والتي فضحت استفادة العديد من المسؤولين الكبار من بقع أرضية بآلاف الهكتارات وبأثمنة جد بخسة.
والحوادث في هذا الباب لا تنتهي وبشكل يومي إلى درجة أن العديد من المنابر أصبح هذا تخصصها وعنوانها وديدنها.
خلاصة
إن رهان قوى النكوص في أفق انتخابات 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ومن خلال كل الأسلحة القذرة أو الناعمة التي تشتغل بها، وهو ما تعبر عنه المؤشرات أعلاه، هو إغلاق قوس الانفراج الديمقراطي، أو على الأقل تقزيم ومحاصرة نتائج حزب العالة والتنمية الذي تشير كل المعطيات والاستطلاعات إلى تصدره للانتخابات المقبلة، بما يجعله يواجه صعوبة حقيقية في تشكيل أغلبية حكومية مريحة (أزيد من 200 برلماني)، بل يراهنون ربما حتى على فشله في جمع الأغلبية مما سيدفعه إلى العودة للملك للتعبير عن تعسر تشكيل الحكومة، ومنها المرور إلى سيناريو ثان سيمكنهم من اللعب والتفاوض مع العدالة والتنمية وهو في موقف ضعف وضع فيه ودفع له.
هل يعي حزب العدالة والتنمية هذه التحديات في طريقه؟ الجواب بالتأكيد، لكن يبقى السؤال عن ردة فعله المرتقبة وحول حدود صبره التي يختبرها معسكر السلطوية بكل بشاعة، كما أن هناك عامل آخر حاسم في كل هذا وهو كلمة المغاربة في الانتخابات، لأن هذا العنصر كان حاسما في انتخابات 25 تشرين الثاني/ نونبر2011 وأيضا في الانتخابات المحلية والجهوية في 4 أيلول/ سبتمبر 2015، ففي الوقت الذي كان فيه رهانهم على تراجع شعبية العدالة والتنمية بعد أربع سنوات من مساهمته في الحكم بترؤس الحكومة، ورغم كل العراقيل، كان جواب الناخبين هو منح العدالة والتنمية أزيد من مليون و500 ألف صوت بزيادة فاقت 300 ألف صوت مقارنة مع انتخابات 2011، وتمكينه من تسيير جل المدن المغربية الكبرى.