الفراغ الذى أحيا «مكملين»..!!

خرج «دونكومب جويل»، مراسل «ديلي ميل»، في أيامها المبكرة إلى «تايمز أوف ووركس»، بعد تكليفه بتغطية حدث تدشين السفينة «البيون» في لندن، وعاد إلى المكتب حاملا رواية منمقة، بالغ في رومانسيتها، حيث جاء وصفه هكذا «كان المشهد أقرب الأشياء إلى غروب الشمس بألوان الرسام تيرنر التي يمكنك أن تضعها في مخطوط»، وحين كان يسلم مادته الصحفية كان هناك ثلاثون شخصا غرقوا عند إطلاق السفينة «فواجهه رئيسه بالخبر، فقال جويل: حسنا رأيت بعض الأشخاص يتخبطون في لجة الماء حين كنت أغادر المكان لكن..».

تخيلت أمثال «جويل» أمامي وهو يحادثني بلهجة حادة «مصر التي تغطونها في أعلامكم ليست مصرنا»، باغتني الرجل الليبرالي الأربعين، الذي  ينتمي إلى الطبقة المتوسطة ويشغله الحنين إلى الماضي، فقاطعته لأرد حفظا لماء الوجه: «الإعلام ليس واحدا كما ذكرت»، فاستفزه الأمر وأخذ يردد: لم أجد مفرا من إعلامكم سوى إعلامهم، فقلت إعلام من؟، فعاد إلى الوراء في جلسته قائلا «الإخوان.. نشاهد اليوم (مكملين) و(الشرق).. لأن تلك الحياة القاسية والأوضاع السيئة والغلاء الفاحش تجاهلتموها وغيبتموها عنا، ولذلك فأحوالنا الحقيقية نراها لديهم رغما عنا، لجأنا إليهم بعد أن أقصيناهم.. لماذا فعلتم بنا ذلك؟، لماذا خنتم مواطنيكم؟».

إحدى الليالي الحارة في جنوب مصر: أحدهم «من الفلول»، والذي  يشغل أبناء عائلته مراكز مرموقة في الدولة المصرية، فهو ومن مثله تعبير عن تلك الطبقة التي تحالفت مع السلطة دوما، يجلس في مكتبه الوثير وفى مواجهته شاشة تحمل لوجو «مكملين»، فسأله ضيفه: «معقولة تتفرج على تجار الدين الكذابين»، فجاء حاسما: «نرى لديهم وجهة النظر الأخرى»، ففوجئ بالإجابة رغم أن هذا الشخص لم يكن يوما متصلا ومهتما بالسياسة أو الشأن العام..!!.

لن أخوض كثيرا في التفسير، فالرسالة واضحة، فقد نظرت إلى الأمر من وجهة نظر الصحفي أو الإعلامي، الذي  يرى مهنته تتداعى من أجل وَهْمٍ يطلقون عليه مرة «الاصطفاف»، ومرة أخرى «مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق»، رغم أن المهنة لا تتعارض مع الاصطفاف، كما أن الكتابة والتغطيات لن تذهب بنا إلى مصير سوريا والعراق، بل بالعكس تلك المهنة، التي غلبت البعض بفضل ظروف جديدة طرأت بسبب الإحباط العام والتشكك في المستقبل، دفعت الصحافة والإعلام إلى الاهتمام بملف وزير التموين «أميل إلى حذف واقعة الفندق» حتى أُقصى الرجل من منصبه، فالأمر تعلق بحياة الناس «المم».

هذه الصحافة التي لم يخن بعضها قرّاءه والتحقت بها أخرى لمجرد شعورها بأن الساحة مفتوحة أو أن هناك هوى رسميا مؤيدا، وجدت شيئا بعد تجريف شهور من أجل القارئ، أعتبره مجرد بداية قد يراها البعض بقعة ضوء ستنزوي وسط صخب الموالاة وسيعود الجميع إلى أدراجه، في حين يراها البعض شمعة يخترق ضوؤها ظلام التقييد والمنع، ويمكن أن تتحول إلى مشعل في لحظة حقيقة لا ينكرها الحاكم قبل المحكوم ‹«حين يشعر المقاتل أن شعبه قد ملّ منه لن يعد بمقدوره القتال».

أمثال «جويل» يمرحون ويسرحون في ملكوت النفاق والكذب والخداع، فما فعله استطلاع «تويتر» لرمز «الصدأ» ليس إلا حماقة مطبل لن يخجل بعد حينٍ أن يختار سيداً جديداً وعتبةً جديدةً ليعبدها ويتخذها قِبلة ما دامت الخزائن ستنفتح والقُربى ستحل مع بركة المصلحة.

الفراغ مغرٍ، وتلك الشاشات إذا لم تلتزم رشد المهنة وتبتعد عن صنيعة «جويل»، فالبديل الخادع ينتظر تلك الملايين لترى وجها آخر للحقيقة مغموسا بالكراهية والكذب وتجارة الدين، افتحوا النوافذ فلن تأتي بالخماسين بل بنسمات يحتاجها وطن سكنته الدعاية وخالفه المنطق، الإعلام تنوع وتعدد وليس صوتا أحاديا، فغدا- إن ظلت النوافذ مغلقة- سيكون معظم المصريين على القمر القطري «سهيل سات» يشاهدون دعاية الإخوان المظلمين على قنوات الجزيرة وشقيقاتها مع مباريات «بي إن سبورت»!!.

المصري اليوم