وضح زعيم حركة
النهضة التونسية الشيخ راشد
الغنوشي، في مقال نشرته دورية "فورين أفيرز"، المعالم الجديدة لحركته، وتحولها من العمل الاجتماعي/ الدعوي إلى العمل السياسي، وجاء المقال تحت عنوان "من الإسلام السياسي إلى المسلمين الديمقراطيين: حزب النهضة ومستقبل تونس".
وبدأ الغنوشي مقاله، الذي ترجمته "
عربي21"، بالقول إن "حزب النهضة، وهو واحد من أكثر الأحزاب السياسية المؤثرة في العالم العربي، والقوة المحركة في ظهور
الديمقراطية في تونس، أعلن قبل فترة وجيزة تحولا تاريخيا، فقد انتقل الحزب مبتعدا عن جذوره بصفته حزبا إسلاميا، وتبنى وبشكل كامل هوية جديدة ليكون حزبا للمسلمين الديمقراطيين، فالمنظمة التي شاركت في تأسيسها في الثمانينيات من القرن العشرين لم تعد حزبا سياسيا وحركة اجتماعية، وقامت بوقف نشاطاتها الثقافية والدينية كلها، وتركز الآن على السياسة".
ويضيف الكاتب أن "تطور النهضة هو مرآة للمسار التونسي السياسي والاجتماعي الواسع، حيث ظهر الحزب أولا بصفته حركة إسلامية، وردا على الاضطهاد الذي مارسه النظام العلماني الشمولي، الذي حرم المواطنين من الحرية الدينية، وحقهم بحرية التعبير وإنشاء الجمعيات، ومنع الديكتاتوريون في تونس لعقود طويلة أنواع الخطاب السياسي كلها في البلاد، وأجبروا الحركات ذات الأهداف السياسية على العمل بشكل خاص لتكون منظمات اجتماعية وثقافية، إلا أن الثورة في الفترة ما بين 2010 و2011 أنهت الحكم الشمولي، وفتحت الباب لمنافسة سياسية حرة ومفتوحة ونزيهة".
ويتابع الغنوشي قائلا: "يؤكد الدستور التونسي الجديد، الذي أسهم أعضاء النهضة في البرلمان في كتابة مسودته، والمصادقة عليه عام 2014، تكريس الديمقراطية، ويحمي الحريات السياسية والدينية، وفي ظل الدستور الجديد تم ضمان حقوق التونسيين بحرية العبادة، والتعبير عن معتقداتهم، واعتناق الهوية العربية الإسلامية، وعليه، فإن النهضة لم تعد بحاجة إلى تركيز جهودها للحصول على هذه الحماية، ولم يعد الحزب يرضي بعلامة (إسلامية)، وهو مفهوم تعرض للتشويه في السنوات القليلة الماضية على يد الراديكاليين المتطرفين، لوصف نهجه. ففي المرحلة الديمقراطية من تاريخ تونس لم تعد المسألة العلمانية مقابل الدين قائمة، ولم تعد الدولة تفرص العلمانية من خلال القمع، ولم تعد هناك حاجة للنهضة أو أي طرف آخر لحماية الدين، كونه جزءا جوهريا من النشاط السياسي".
ويؤكد الكاتب قائلا: "بالطبع كوننا مسلمين، فلا تزال قيم الإسلام ترشد أفعالنا، لكننا لم نعد نرى في النقاشات الأيديولوجية القديمة حول أسلمة المجتمع وعلمنته مهمة، أو حتى ذات صلة، ولم يعد التونسيون اليوم مهتمين بدور الدين، بقدر ما هم مهتمون ببناء نظام حكم ديمقراطي يسع الجميع، ويحقق طموحاتهم لحياة أفضل، وكونه شريكا ناشئا في ائتلاف الحكم التونسي، فإن حزب النهضة يأمل بالتوصل إلى حلول تعالج هموم المواطنين كلها في البلد".
ويواصل الغنوشي قائلا: "جاء تطور النهضة نتيجة لـ35 عاما من المراجعة الذاتية، ونتيجة لأكثر من عامين من البحث والنقاش على مستوى القاعدة، ففي مؤتمر النهضة العام، الذي عقد في أيار/ مايو، صوتت نسبة 80% من الوفود المشاركة لصالح التحول الرسمي، وهو لا يمثل تحولا عميقا بقدر ما هو مصادقة على معتقدات قائمة، فقيمنا مرتبطة أصلا بالمثل الديمقراطية، ولم تتغير معتقداتنا الجوهرية، فما تغير هو في الحقيقة المناخ الذي نعمل من خلاله، حيث أصبحت تونس في النهاية ديمقراطية وليست ديكتاتورية، وهو ما يعني أن النهضة أصبح في النهاية حزبا سياسيا يركز على الأجندة العملية، والرؤية الاقتصادية، ولم يعد حركة اجتماعية تكافح ضد الاضطهاد والديكتاتورية، وفي الوقت الذي يواجه فيه الشرق الأوسط كله الاضطرابات والعنف، الذي يتعقد عادة بالنزاعات حول العلاقات المناسبة بين الدين والسياسة، فإنه يجب أن يخدم تطور النهضة بصفته دليلا على أن الإسلام متوائم بالتأكيد مع الديمقراطية، ويمكن للحركة الإسلامية أن تؤدي دورا مهما وبنيويا في تقوية التحول الديمقراطي الناجح".
المقاومة والتنوير
ويشير الكاتب إلى تجربة النهضة تاريخيا، ويقول: "قمت أنا وعبد الفتاح مورو بإنشاء حركة الاتجاه الإسلامي، التي أصبحت فيما بعد النهضة في السبعينيات من القرن الماضي، وكلانا تخرج من جامعة الزيتونة، وهي أول جامعة إسلامية في العالم، التي أنشئت عام 737، وقامت على رؤية دينامية للإسلام ومتفاعلة مع التغيرات التي يحتاجها المجتمع، وتشكلت رؤيتنا عبر العلاقة مع عدد من المفكرين الإصلاحيين الإسلاميين، وتأثرنا بالبداية بالمفكرين من مصر وسوريا، ممن كانت لهم علاقة مع الإخوان المسلمين، مثل مؤسس الحركة حسن البنا، وزعيم الفرع السوري مصطفى السباعي، ومع تطور حركة الاتجاه الإسلامي تأثرنا بشكل متزايد بمفكرين من منطقة المغرب، مثل الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، ومفكر الزيتونة الطاهر بن عاشور، الذي يعد من رواد النهج العقلاني في تفسير القرآن الكريم، الذي أكد مقاصد الشريعة. كانت تونس في تلك الفترة تمر بشكل متزايد باضطرابات اجتماعية وسياسية؛ بسبب عدم الرضا الواسع عن النظام الشمولي للرئيس الحبيب بورقيبة، وقمعه للحريات السياسية والمدنية، بالإضافة إلى النمو الاقتصادي البطيء، وانتشار الفساد، وعدم المساواة، ووصلت حالة السخط مداها في سلسلة من الإضرابات في عام 1976 و1978، وهو اليوم الذي عرف في التاريخ التونسي بالخميس الأسود، عندما قام النظام بقتل العشرات من المتظاهرين، وجرح المئات، واعتقل أكثر من ألف شخص اتهموا بالتحريض على العصيان".
ويبين الغنوشي قائلا: "في ضوء الإجماع المتزايد حول الحاجة إلى إصلاحات سياسية، ضمت حركة الاتجاه الإسلامي تونسيين ممن عارضوا نظام بورقيبة، وشعروا أنهم مستبعدون من النظام السياسي، بسبب اضطهاد الدولة لأي نوع من التعبير الديني، سواء في الأماكن العامة أو الخاصة، وقام أعضاء حركة الاتجاه الإسلامي بتشكيل حلقات نقاش، ونشروا المجلات، ونظموا الطلاب في حرم الجامعات، وفي نيسان/ أبريل وافق نظام بورقيبة على تسجيل الأحزاب السياسية، وقدمت حركة الاتجاه الإسلامي طلبا لتشكيل حزب سياسي ملتزم بالديمقراطية والتعددية السياسية، والمشاركة السلمية في السلطة والانتخابات الحرة والنزيهة، بصفتها مصدرا رئيسا للشرعية السياسية وحماية العلماء المعتدلين، ونشر نوع من الحداثة المتوازنة مع القيم التونسية وثقافتها الحضارية، إلا أن الطلب تم تجاهله من السلطات".
ويلفت الكاتب إلى أنه "عندما ووجه النظام بدعوات متزايدة للإصلاح، فإنه قام بدلا من ذلك بتوسيع القمع، واعتقل 500 من أعضاء حركة الاتجاه الإسلامي، وكنت واحدا منهم، وتم سجني في الفترة ما بين 1981 – 1984 مع عدد من زملائي، وبعد ذلك بفترة قصيرة من الإفراج عنا تم اعتقال عدد منا مرة أخرى، واتهمنا بالتحريض على العنف، و(محاولة تغيير طبيعة الدولة)، وتم الحكم على عدد من عناصر الحركة بأحكام بالسجن مدى الحياة في محاكمات هزلية، في الوقت الذي انزلق فيه النظام عميقا في القمع والطغيان".
ويشير الغنوشي إلى فترة زين العابدين بن علي، قائلا: "وجاء صعود زين العابدين بن علي إلى السلطة، بعد تنحية بورقيبة في انقلاب عسكري عام 1987، إشارة إلى الانفتاح السياسي، وبعد عام قام ابن على بإصدار عفو عام عن المعتقلين السياسيين، وأعلن عن مرحلة جديدة من التعددية الديمقراطية، وقدمت حركة الاتجاه الإسلامي طلبا للاعتراف بها بصفتها حزبا سياسيا، وغيرت اسمها إلى حزب النهضة، ومرة أخرى تم تجاهل الطلب، وتبين أن الأمل بحصول انفتاح لم يكن سوى سراب، حيث عاد ابن علي إلى مرحلة بورقيبة، وبعد انتخابات عام 1989 العامة، حيث حصل مرشحون مستقلون مرتبطون بالنهضة على 13% من مجمل الأصوات، وبحسب بعض المصادر الأخرى، فقد وصلت إلى 30% في بعض المناطق الحضرية، تحرك النظام لسحق الحزب، واعتقل عشرات الآلاف من عناصره، سجنوا وعذبوا ووضعت أسماؤهم على القوائم السوداء، ومنعوا من العمل والفرص التعليمية، وتعرضوا للتحرش، وأجبر عدد آخر، وأنا منهم، على الإقامة في المنفى".
ويقول الكاتب: "قبع التونسيون لعقدين من الزمان في ظل الاضطهاد، وكافحت حركة النهضة للبقاء سرا بصفتها حركة ممنوعة، وجاءت النقطة المحورية في كانون الثاني/ ديسمبر 2010، عندما قام بائع متجول اسمه محمد بوعزيزي بحرق نفسه أمام مكتب الحكومة المحلي؛ احتجاجا على الإهانة التي تعرض لها على يد المسؤولين، وأمسك فعل بوعزيزي بخيال الرأي العام، وفي أقل من شهر اندلعت تظاهرات في أنحاء البلد كلها، وأجبرت ابن علي على الهرب، وأدت إلى إشعال عدد من الثورات في معظم أنحاء العالم العربي، وشاركت عناصر النهضة في التظاهرات إلى جانب بقية التونسيين، لكن ليس تحت راية الحزب، وذلك لعدم منح النظام المبرر لتصوير التظاهرات على أنها من فعل المعارضة الطامحة للسيطرة على السلطة".
وينوه الغنوشي إلى أنه في أول انتخابات حرة ونزيهة تشهدها البلاد في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، ساعدت الشبكة الشعبية والسجل الحافل في معارضة النظام الحزب على الفوز بحصة كبيرة من الأصوات وبهامش واسع، ورأت النهضة تشكيل حكومة وحدة وطنية، ولهذا دخلت في ائتلاف رائد مع حزبيين علمانيين، ضاربة مثالا غير مسبوق في السياسة العربية المعاصرة، ودفعت النهضة في تونس ما بعد الثورة، حيث هدد التوتر بالإطاحة بحكومة البلاد الديمقراطية الهشة، نحو التسوية والمصالحة، بدلا من الإقصاء والانتقام".
ويوضح الكاتب أنه "أثناء المفاوضات حول الدستور الجديد قدم برلمانيو النهضة عددا من التنازلات الحيوية، ووافقوا على نظام يجمع بين الرئاسة والبرلمان، (ودعت النهضة في البداية إلى نظام برلماني)، ووافقت على عدم ذكر الدستور الشريعة مصدرا وحيدا للتشريع، ونتيجة لاستعداد النهضة العمل من داخل النظام، فإن الدستور الجديد يكرس آلية الديمقراطية، وحكم القانون، وعددا واسعا من الحقوق الدينية والمدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية.
ويفيد الغنوشي بأنه "في عام 2013 قامت جماعات بسلسلة من الهجمات والاغتيالات السياسية، ما أدى إلى فترة من عدم الاستقرار والاحتجاج، في محاولة لتشويه النهضة، وربطها زورا بهذه الجرائم، وقام عدد من البرلمانيين بتعليق مشاركتهم في كتابة مسودة الدستور، وردا على هذا قامت النهضة والائتلاف المشارك معها بالبحث عن تسوية بدلا من فرض الوثيقة في فترة من الاضطرابات، ومن أجل الحفاظ على شرعية العملية السياسية قامت الحكومة، التي تقودها النهضة، بعمل شيء لم ير في المنطقة من قبل: قامت بالتنحي عن الحكم، وسلمت السلطة إلى حكومة محايدة من التكنوقراط، فلم تكن أولويتنا هي البقاء في الحكم، لكن الأولوية كانت التاكد من إكمال مجلس كتابة الدستور، الهيئة التمثيلية العليا، صياغة الدستور، الذي يضع الأسس السياسية لتونس الديمقراطية".
ويعلق الكاتب على خسارة النهضة فائلا: "بعد انتخابات عام 2014 قبلت النهضة خسارتها في الانتخابات بروح رياضية عالية، حتى قبل أن تعلن نتائج الانتخابات لصالح نداء تونس، وهو حزب يمين الوسط الذي أنشئ في عام 2012، ومنذ ذلك الوقت عملت النهضة مع نداء تونس بصفتها شريكا مساعدا في حكومة الائتلاف، ورغم اختلاف الحزبين في كل قضية إلا أن الائتلاف استمر، وقدم الدستور المصاغ بشكل جيد، وقدم التعاون السياسي للنهضة الظروف لتقوم بالخطوة التالية في رحلتها باتجاه الديمقراطية الإسلامية".
الفصل بين المسجد والدولة
ويقول الغنوشي عن الرؤية الفكرية للتغيير إنه "في المؤتمر العاشر في أيار/ مايو، أعلنت النهضة عن سلسلة من التغييرات، التي أضفت طابعا رسميا على قرارها التركيز وبشكل كامل على السياسة، والتخلي عن النشاطات الاجتماعية، والتعليمية، والثقافية، والدينية، ففي السنوات الأخيرة تخلى الحزب عن هذه النشاطات، معترفا أنها من عمل منظمات مدنية مستقلة، وليست من عمل الحزب أو الكيانات المرتبطة به، واشترط القرار، الذي صادق على ذلك، عدم مزاولة كوادر الحزب الدعوة في المساجد، وأنه لا يمكنهم تولي مهام قيادية في جماعات المجتمع المدني، مثل الجمعيات الدينية والخيرية".
ويورد الكاتب أن "الهدف من وراء ذلك كان هو الفصل بين المجالين الديني والسياسي، ونعتقد أن لا حزب سياسيا يمكنه الزعم بأنه يمثل الدين، ويجب إدارة المجال الديني عبر مؤسسات محايدة ومستقلة، وبعبارة بسيطة يجب إبعاد الدين عن التحزب، فنحن نريد أن يصبح المسجد المكان الذي يلتقي فيه الناس معا، وليس مكانا للانقسام، ويجب ألا يحتل الأئمة مناصب في أي حزب سياسي، ويجب أن يتم تدريبهم من خلال متخصصين في مجالاتهم؛ ليحصلوا على الخبرة والمصداقية المطلوبة من القيادات الدينية، وفي الوقت الحالي لم تحصل سوى نسبة 7% من الأئمة على تدريب كهذا".
ويتحدث الغنوشي عن أولويات الحزب الجديدة قائلا: "صادق مؤتمر الحزب على استراتيجية شاملة لحل التحديات الكبيرة التي تواجه تونس، مركزة على تعزيز الإجراءات الدستورية، والبحث عن العدالة الانتقالية، وإصلاح مؤسسات الدولة، والبدء في الإصلاحات الاقتصادية من أجل تحفيز النمو، وتشكيل نهج متعدد الاتجاهات؛ من أجل مكافحة الإرهاب، وتعزيز الإدارة الجيدة في المؤسسات الدينية".
ويبين الكاتب أن "النهضة الآن لم تعد تفهم بطريقة جيدة بصفتها حركة إسلامية، لكن كونها حزبا للمسلمين الديمقراطيين، ونسعى إلى توفير حلول للمشكلات اليومية التي تواجه تونس، بدلا من الوعظ حول اليوم الآخر، وحتى نكون واضحين فقد كانت المبادئ الإسلامية هي التي تلهم النهضة، وستستمر هذه القيم بقيادتنا، ولم يعد من الضروري أمام النهضة، أو أي حزب، للكفاح من أجل الحرية الدينية، ويتمتع التونسيون كلهم، بناء على الدستور الجديد، بالحقوق ذاتها، سواء كانوا مؤمنين، لا أدريين أو ملحدين، فالفصل بين الدين والسياسة سيمنع المسؤولين من استخدام الخطاب القائم على الدين للتلاعب بالرأي العام، كما أنه يعيد استقلالية المؤسسات الدينية، فلن يكون الدين مرة أخرى رهينة للسياسة، كما كان قبل الثورة، عندما تدخلت الدولة، واضطهدت النشاطات الدينية".
ويلفت الغنوشي إلى مزايا الفصل قائلا: "سيساعد الفصل على تسليح تونس بدرجة أفضل لتكون قادرة على مواجهة التطرف، فعندما اضطهد الدين، وأغلقت المؤسسات الدينية بطريقة قسرية ولعقود طويلة، لم يجد الشباب التونسيون أي نقطة مرجعية من الخطاب الديني الرسمي، أو الفكر الإسلامي المعتدل، ما أدى بالكثيرين إلى الاستسلام إلى تفسير مشوه من الإسلام وجدوه على الإنترنت، وتحتاج مواجهة العنف المتطرف فهما للتعاليم الحقيقية للإسلام، التي ترفض الآراء القائمة على الأبيض والأسود، وتسمح للتفسيرات لتستوعب احتياجات الحياة المعاصرة، ومن هنا فإن الفصل الحقيقي بين المسجد والدولة يسهل التعليم الديني الأفضل، ويعيد إدخال التفكير الإسلامي المعتدل إلى تونس".
توبيخ للطغاة والمتطرفين
ويقول الكاتب عن حصيلة الفترة الماضية: "لقد حققت تونس تقدما سياسيا مميزا خلال السنوات الخمس الماضية، ومن أجل تعزيز هذه المكاسب يجب على الحكومة وضع التطور الاجتماعي والاقتصادي على رأس أولوياتها، ويجب أن تذهب أبعد من بناء المؤسسات الديمقراطية، وتقوم بإصلاحات سياسية توافق الحاجيات الملحة للوظائف والنمو، وعند هذه النقطة دعت النهضة إلى حوار وطني اقتصادي شامل ونهج تشاركي للإصلاح يقوم على رؤية (الرأسمالية الرحيمة)، وهو نهج يوازن بين حرية التجارة ويمثل العدالة الاجتماعية والفرص المتساوية".
ويرى الغنوشي أنه "لدفع النمو، تحتاج الحكومة إلى تعبيد الطريق أمام عودة الإنتاج في عدد من القطاعات الاستراتيجية، مثل صناعة الفوسفات، التي تباطأت منذ الثورة؛ بسبب الخلافات بين اتحادات الشغل والمنتجين حول الأجور وظروف العمل، وتدعم النهضة بقوة الإصلاح في القطاع المصرفي بشكل يسهل أمام الأفراد والشركات الحصول على التمويل، وستؤدي هذه الإصلاحات إلى إدخال معظم الاقتصاد غير الرسمي إلى التيار الرسمي في الاقتصاد، ودفع الحزب وبنجاح نحو زيادة المساعدة الحكومية لأصحاب الأعمال الصغيرة والمزارعين، وبالإضافة إلى هذا يجب على الحكومة تنويع العلاقات التجارية التونسية، وزيادة صادرات تونس إلى دول الجوار، من خلال فتح فرص جديدة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والتقدم في المفاوضات حول اتفاق التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي".
ويجد الكاتب أن "خلق ثقافة للتجارة والأعمال مهم تحديدا لنجاح تونس، حيث تعود التونسيون على التفكير الذي يعد الدولة المصدر الرئيسي للتوظيف، كما أن الفساد في ظل النظام السابق وضع عددا من العراقيل أمام من فكر بالدخول إلى قطاع الأعمال، وتريد النهضة تشجيع التحول من التبعية، التي سمحت تاريخيا للدولة باحتكار المصادر وتوزيعها بطريقة زبائنية غامضة، وتدعم النهضة جهود الحكومة في تشجيع الريادة في الأعمال بين الأجيال الشابة، وكان وزير التكوين المهني والتشغيل زياد العذاري قدم إصلاحات طموحة وضرورية، وأعلن عن برنامج جديد لتدريب أكثر من 600 ألف عاطل عن العمل في تونس، وقام بإعادة إعمار مراكز التدريب، وخلق هيئة وطنية لإرشاد الشباب حول مسارهم المهني".
وبحسب الغنوشي، فإن "النهضة دعمت أيضا إصلاحات تسهل إنشاء شراكات تجارية عامة وخاصة وإنشاء عمل جديد، وقامت الحكومة التي قادتها النهضة في الفترة 2011-2014 بالإعلان عن قانون جديد ينظم هذه الشراكات، الذي تم تبنيه في الفترة الأخيرة، واقترح العذاري برنامجا يقوم على تشجيع الأعمال الجديدة، من خلال إنشاء برامج إشراف للأعمال الجديدة، ودعم الريادة في الأعمال، من خلال نظام تمويل مرن، ومكتب واحد للإجراءات؛ من أجل تخفيف البيروقراطية".
ويعتقد الكاتب أنه "لا يمكن حدوث تطور اقتصادي دون إصلاحات مهمة في النظام التعليمي، الذي انفصل عن واقع سوق العمل في تونس، حيث يصل مجمل البطالة في الوقت الحالي إلى 15%، ويجب أن يكون التعليم الطريق نحو العمل وليس جسرا للبطالة، وتدفع النهضة باتجاه إصلاح يمكن أن يساعد المؤسسات التعليمية لتستجيب لاحتياجات السوق، بما في ذلك التركيز على المهارات الناعمة، وتوفير مستوى واسع من برامج التدريب التقني، وربط الطلاب بالفرص والأعمال في القطاعين العام والخاص".
ويستدرك الغنوشي قائلا إن "دعم التحول التونسي الدراماتيكي السياسي، وتحقيق التقدم في مجال التطور الاقتصادي يحتاجان أيضا إلى تغير اجتماعي، خاصة عندما يتعلق الأمر بدور المرأة في الحكومة والأعمال، فمشاركة المرأة التونسية، وقيادتها في السياسة، والقضاء، والمجتمع المدني، حيوية للانتقال الديمقراطي الذي حققته البلاد، واليوم فإن نسبة 60%من خريجي الجامعات هي من النساء، ومع ذلك لا تزال المرأة تعاني من مستويات عالية من البطالة أكثر من الرجل (21.5% مقارنة مع 12.7% في عام 2014)، ويعتمد تقدم البلاد على إزاحة العقبات التي تواجه المرأة في المجالات كلها، ونشر المشاركة المتساوية، وحماية حقوق المرأة، وفي هذه النقطة تدعم النهضة فرض تمثيل للجنسين متساو في قوائم الحزب للانتخابات المحلية، التي ستعقد في آذار/ مارس 2017، وتقدم نواب النهضة في البرلمان بمشروع لضمان حقوق قوية تحمي المرأة من التمييز، وتعطيها مسارا وظيفيا مرنا".
وينوه الكاتب إلى مسألة مهمة قائلا: "يطغى على هذه القضايا كلها مسألة الأمن، فالتحدي الذي يجعل التونسيين آمنين في منطقة غير مستقرة يشكل اختبارا لقوة النظام الديمقراطي الجديد للبلد، وعلى الدولة ان تحمي المواطنين، وفي الوقت ذاته التأكد من احترام حقوق الأفراد وحكم القانون، ودفعت النهضة باتجاه إحداث تعديلات في قوانين مكافحة الإرهاب، التي تؤكد حصول المشتبه به على المساعدة القانونية، وطالبنا أيضا باستراتيجية وطنية شاملة، تقوم بمعالجة المسببات المعقدة للتطرف، واستراتيجية ذكية لمكافحة الإرهاب، تقوم بتجنب ردود الفعل السلبية، وتقتضي تحولا ثقافيا من جانب أجهزة الأمن التونسية، باتجاه احترام سيادة القانون، وحماية حريات الأفراد وجماعات المجتمع المدني والإعلام، وتعد القوانين التي بوشر العمل بها، وتحمي حقوق المعتقلين، وتدعو إلى إنشاء لجنة وطنية لمكافحة التعذيب، خطوة في الطريق الصحيح".
ويذهب الغنوشي إلى أن "الطريقة الوحيدة لهزيمة الجماعات المتطرفة، مثل التنظيم الذي يطلق على نفسه الدولة الإسلامية، هي تقديم البديل الذي يحمل الأمل لملايين الشباب المسلم حول العالم، ففي العالم العربي واجه الناس استبعادا اجتماعيا متزايدا، وفرص عمل قليلة، واضطهادا على يد المستبدين، وقام تنظيم الدولة باستغلال حالة الإحباط التي يعانون منها، وهو التنظيم الذي يهدف إلى بث الفوضى، وتشويه النظام، ويريد فرض حالة من الطغيان على المنطقة، فمن خلال إظهار أن الديمقراطية الإسلامية تحترم حقوق الأفراد، وتنشر الفرص الاجتماعية والاقتصادية، وتحمي القيم والهويات العربية والإسلامية، فإن الدعم الناجح للديمقراطية في تونس سيكون بمنزلة توبيخ للطغاة والعنف المتطرف على حد سواء".
ويجد الكاتب أن "التحول الذي قامت به النهضة سيجعل من ذلك النجاح أمرا محتملا، ونأمل أن تؤدي التجربة بالدفع إلى نقاش في العالم الإسلامي حول التوافق بين الديمقراطية والإسلام، وماذا يعني أن تكون حزبا يتسع الجميع، وكيف تبني أنظمة ديمقراطية تنشر التعددية واحترام الحق في الخلاف".
ويخلص الغنوشي إلى القول إن "المناخ السياسي التونسي مختلف عن غيره في المنطقة، فلا تزال بقية الدول العربية، مثل مصر والعراق وسوريا، تعاني من الديكتاتورية والحكم العسكري، أو أنها لا تزال تعيش نزاعات إثنية أو طائفية، فكلما كان الوضع الداخلي للبلد معقدا كان ثمن التغيير باهظا، ويحتاج إلى وقت، إلا أن التغيير قادم، سواء كان نتيجة لحرب أهلية أم ثورة سلمية أم إصلاح تدريجي، وعندما يتعلق الأمر بتونس تأمل النهضة بأن تكون مثالا لا يقدر ثمنه".