معروف عن
الدبلوماسية العربية حذرها الشديد إزاء التعامل مع القضايا الداهمة والمصيرية في المنطقة، باستثناء القضية الفلسطينية. هذا أمر مفهوم ومجاز في العلاقات الدولية، ولا ينطبق فقط على العرب، كون المصالح هي من تحكم العلاقات بين الدول، بعض النظر عن تبدّل الأنظمة والشخصيات الحاكمة فيها. وهذه المصالح هي من تحدد شكل تلك العلاقات وطبيعتها.
أطلقت وصف الدبلوماسية العربية على الرغم من أن كثيرين قد يختلفون معي في هذا التوصيف، ولهم اعتباراتهم في ذلك. فالسياسة الخارجية للدول العربية متفاوتة بشكل كبير، وبعد التغييرات الكبيرة التي شهدها العالم العربي عقب انطلاق ما يعرف بثورات الربيع العربي شهدنا شبه انهيار في المنظومة العربية، مع أن بعض الدول المحورية، كالسعودية، نجحت إلى حد مقبول في الحفاظ على وحدة الموقف الخارجي لتكتل إقليمي كمجلس التعاون الخليجي، باستثناء دولة قطر التي تحاول إيجاد نوع من الاستقلالية في دبلوماسيتها إزاء القضايا الإقليمية من دون أن تخرج بشكل فجّ عن ثوابت الرياض.
جاءت محاولة الانقلاب العسكري في
تركيا منتصف شهر تموز/ يوليو الماضي لتكشف عيوب دبلوماسية العرب، وتسلط الضوء مجدداً على الوضع الصعب الذي تعيشه. بدا ذلك جلياً من خلال مسارعة دولة عربية واحدة، هي قطر، إلى إظهار الدعم السريع للحكومة التركية والرئيس رجب طيب أردوغان، وتنديدها بالانقلاب بعد أقل من ساعات على وقوعه، حيث أجرى أمير قطر اتصالاً هاتفياً داعماً لأردوغان ليلة الانقلاب، وسارع إلى إرسال وزير خارجيته إلى أنقرة بعد أيّام من ذلك الحدث، فيما تريّثت جل الدول العربية في إبداء دعم مماثل في الساعات الأولى، كحال
السعودية، وفضّلت انجلاء المشهد التركي أكثر لاتخاذ موقف. وفي الحقيقة لا يُحسد المسؤولون السعوديون على هكذا موقف، كما أنّ ذلك لا يعني غياب الرغبة السعودية في التنديد بالانقلاب على الشرعية في تركيا. ذكرت الرياض والدوحة كمثالين؛ لأن العاصمتين تعنيان تركيا بشكل كبير ولديها معهما علاقات مميزة، وتجنبت الحديث عن دول أخرى محورية، كمصر، كونها تعيش في حالة خصومة شديدة مع أنقرة، ناهيك عن أن سياسة القاهرة الخارجية في حالة موت سريري في عهد السيسي.
صحيح أن السعودية أصدرت بياناً قوياً داعماً للحكومة التركية عقب يوم من الانقلاب، وملكها أجرى اتصالاً هاتفياً بأردوغان لتهنتئه على سلامته في اليوم التالي، لكنّ خطوات منتظرة منها لم تحصل، كإرسال وزير خارجيتها إلى أنقرة كما فعلت قطر. ويبدو الموقف السعودي حتى الآن أقرب إلى الموقف الأمريكي، حيث أن واشنطن ندّدت بمحاولة الانقلاب، لكنّ وزير خارجيّتها سيزور أنقرة في النصف الأخير من الشهر الجاري، أي بعد أكثر من شهر على الحادث. السعودية تعاتَب لأن العتب على قدر المحبّة، كما يقول المثل الشعبي، والعلاقات السعودية التركية شهدت تطوراً كبيراً في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز. وقد لاحظناً بالفعل الحفاوة التي صاحبت زيارة العاهل السعودي الأخيرة وقبلها إلى أنقرة، وأيضاً زيارة أردوغان إلى الرياض. كما أنّه مؤخراً تم إنشاء مجلس للتعاون الاستراتيجي بين البلدين، وهو يجسد التقاء رؤية الجانبين لكثير من الملفات الساخنة في المنطقة، بعد عام من التقارب في مواجهة المحور الروسي الإيراني السوري.
تطرّقت إلى المقارنة بين الموقفين الأمريكي والسعودي؛ لأن البلدين تربطهما تاريخياً رؤية مشتركة في أغلب ملفات الشرق الأوسط، ولا أدري ما إذا السعوديون فضّلوا السير على خطى الأمريكيين تجاه انقلاب تركيا، لكن الواقع يشير إلى ذلك ولو بشكل غير متطابق. ومن الواضح أن الرياض لا زالت تفضّل عدم التخلي عن شراكتها مع واشنطن، رغم خيبات الأمل الكثير التي تعتريها من إدارة الولايات المتّحدة لقضايا تعني المملكة، كالموقف من إيران والملف السوري على وجه التحديد. لا تكمن أهمية علاقات الرياض وأنقرة بالتعاون فيما بينهما في تطوير العلاقات الثنائية، فالملف السوري وما يتضمّنه من أولوية سعودية لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة العربية؛ لا يمكن تجاهله كنتيجة حتمية لاكتمال التعاون الاستراتيجي بين الدولتين المحوريتين إن حصل بالفعل.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وضع معايير واضحة لتقييم أعداء تركيا من حلفائها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وكان واضحاً في أن بيانات الدعم لن تكون ذات جدوى من دون إرسال الموفدين إلى أنقرة. هذا المعيار ينطبق على السعودية التي أخفقت في الاختبار حتى الآن. وللأسف خصمها اللدود إيران نجح في استغلال هذا الإخفاق، وتعامل بدهاء معه. فطهران أرسلت وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إلى العاصمة التركية، ولو بشكل متأخر، مقارنة بالخطوة القطرية. حاولت وسائل إعلام إيرانية استغلال الأمر لإظهار ما اعتبرته ضعف موقف السعودية من الانقلاب، لكن الخارجية التركية نفت ما أشيع عن امتعاض تركي من الموقف السعودي، واعتبرت أن الرياض أبدت موقفاً واضحاً ضد المحاولة الانقلابية، وفي ذلك رسالة واضحة للأهمية التي يوليها الأتراك للمملكة ومكانتها لديهم.
بإمكان السعوديين تدارك الخلل خلال الفترة المقبلة؛ على قاعدة أن تأتي متأخرة خير من أن لا تأتي. وعلى الرياض أن تحجز لها مكاناً مرموقاً في تركيا الجديدة، كما تسعى طهران وموسكو، ومن المهم أن يدرك السعوديون ذلك. كما عليهم أن ينظروا بإيجابية بالغة إزاء التقارب التركي الروسي الإيراني، على اعتبار أن الأتراك قادرون على القيام بدور الوساطة لإصلاح علاقات السعودية مع الإيرانيين وترطيبها مع الروس أيضاً. العرب بارعون في خسارة الأصدقاء كبراعتهم في كسب الأعداء، وأرجو أن أكون مخطئاً في ذلك في الحالة التركية.