محدّدات التفاهم التركي – الروسي في الملف السوري

ربما من المبكّر الحديث عن نتائج لقاء القمة الروسي- التركي، خاصة فيما يتعلق بالموقف التركي من الثورة السورية والعلاقة مع الحلفاء الإقليميين الذين ينسقون مع تركيا في هذا الملف، فمثل تلك الأمور تتأخر نتائج ظهورها؛ ذلك أنها تنطوي على إعادة تموضع وإجراءات وترتيبات تأخذ مدى زمنيا طويلا؛ لتبلورها، ومن ثم إمكانية مشاهدتها.

لكن الأكيد أنه من التبسيط المخل الاعتقاد أن تركيا سوف ترمي بكل استثماراتها السياسية والعسكرية في سوريا، وتحطم ما بنته من شبكة علاقات إقليمية، هكذا دون وجود منطق يستدعي حصول مثل هذا الأمر؛ ذلك أن عودة العلاقات مع روسيا لا تعني انتهاء التحديات التي تنتصب في وجه تركيا، التي هي في الأساس تحديات ذات طبيعة إقليمية لا علاقة لروسيا بها، وهي إشكاليات تاريخية معقّدة تشابكت مع الحدث السوري، وجرى تحديثها في سياق مواقف الأطراف من الأزمة، مثل صراع النفوذ مع إيران وعلاقات تركيا الصراعية مع الأكراد، وبالتالي فإنه من غير المنطقي أن تتنازل تركيا عن مثل هذه الأمور لمن ليس له علاقة مباشرة بها.

هذا لا يعني أن روسيا، وفي إطار بحثها عن تعزيز وضعها وتدعيم أوراقها في سوريا، لن تسعى إلى الضغط على تركيا من أجل تدعيم تلك الأوراق. والمعروف أنه في هذا الوضع التفاوضي من الطبيعي أن تذهب روسيا إلى اعتبار حاجتها هي الأهم، بحيث يصار إلى وضعها في موضع الأولوية والبناء عليها، واعتبار ما دونها قضايا قابلة للتأجيل أو التقسيط، كأن تصر روسيا على أولوية محاربة الإرهاب باعتباره يشكل تقاطعا مشتركا ومصلحة تهم الجميع، والمحافظة على مؤسسات الدولة السورية، هذه عناصر تفاوض وعناوين تخفي روسيا وراءها أهدافها الحقيقية، ذلك أن محاربة الإرهاب تعني بالنسبة لها القضاء على كل ثائر على نظام الأسد، والمحافظة على المؤسسات تستدعي المحافظة على نظام الأسد بعجره وبجره.

لكن الأكيد أيضا أن الدبلوماسية التركية ليست بتلك السذاجة حتى تقع في مثل هذا الفخ التفاوضي، وهي دولة منخرطة في الصراعات منذ تأسيسها، لذا فهي تعرف كيف تدفع بعناصر تفاوضية مضادة ومطالب موازية تحرج الروس وتستطيع تركيا تقديمها كعنصر من أمنها القومي الذي لا يمكن المجاملة فيه. والمعروف عن أردوغان أنه لا يجامل في هذه المسائل، فكيف سيقبل من الروس تدعيم الوجود الإيراني ووضع الجغرافية التركية تحت خطر التفكك جراء تصرفات الفصائل الكردية في سوريا، ومقابل ماذا قد يقدم على هذا الأمر وهو يربط كل هذه التطورات بالملف السوري ووجود بشار الأسد في السلطة؟

الأرجح أن التفاهمات التركية في المجال السوري لن تتعدى التنسيق في مجالات عسكرية، بحيث تمنع التصادم والعودة إلى قواعد اللعبة القديمة التي سيّرت التعامل بينهما، كما أن مثل تلك الآليات من العمل والتنسيق موجودة بين واشنطن وموسكو، ولكنها لم تجعل أي من الطرفين يغير مواقفه. ولا يعود سبب التراخي الأمريكي الحاصل نتيجة وجود التنسيق مع موسكو، بقدر ما هو انعكاس لفلسفة باراك أوباما الانسحابية من مناطق الأزمات.

من المعلوم أن تركيا ليس لها موانع على مصالح روسيا في سوريا، ولكن لديها مصالح باتت تمثل في القضاء على ما تعدّه تمردا كرديا، وتنازل بشار الأسد عن السلطة، وتلك ستكون مفاتيح التفاهم لأي تعاون روسي ممكن، لن تستطيع روسيا مطالبة تركيا بتنازلات مهمة في سوريا دون أن تكون مستعدة لتلبية مصالح تركيا التي تعرفها جيدا. كما تعرف تركيا أن روسيا لا تستطيع أن تفرض الحلول على الأسد وإيران وحلفائهما في سوريا، ومن هذا المنطلق لا تستطيع الالتزام بأي تعهد، وبالتالي لا يحق لها أن تطالب الآخرين بالتزامات لا تستطيع أن تمنح ما يقابلها.

يضاف إلى ما سبق أن روسيا ليست في موقع من يمكنه فرض الشروط من المنصة السورية، ذلك أنها هي نفسها أيضا في ورطة، وهي تخشى من تعمق تورّطها في سوريا بدرجة أكبر. وقد كانت معارك حلب الأخيرة انعكاس لهذه الحقيقة. فرغم كل ما بذلته روسيا وقدمته في مساعدة قوات إيران والأسد، إلا أن ذلك لم يضمن عدم انهيار وتداعي تلك القوات، وتحقيق مكاسب عسكرية ضدها. 

ولا شك أن كل ذلك وضع كرامة روسيا على المحك، وإن توالي مثل تلك الاختبارات من شأنها إضعاف روسيا بدرجة أكبر، ووضعها أمام خيارات خطيرة، بحيث تدفعها إما إلى زيادة انخراطها وارتفاع منسوب المغامرة والمخاطر، أو الانكفاء، وفي الحالتين فإن ذلك لن يكون مفيدا بالحسابات الروسية.