من الواضح أن حكم محكمة القضاء الإداري حسم مسألة أعمال السيادة التي تذرعت بها الحكومة، ولا تزال، بأن اعتبر أن هذا الدفع هو محاولة لإسباغ الحصانة من القضاء على عمل إداري باطل، وأن هذا العمل، وهو التنازل عن الجزر، اغتصبت الحكومة قرار التنازل فيه لأنه محظور في الدستور، لذلك فإن الحجج فضيحة سياسية وانكشاف قانوني، ويكون طعن الحكومة أمام الإدارية العليا إمعانا في هذا الطريق على أمل أن تقبل هذه المحكمة دفع الحكومة بأن توقيع اتفاق التنازل من أعمال السيادة.
وهذا الموقف يثير ثلاث مسائل أساسية، أفضنا أيضا في شرحها في كتابنا حول
مصرية الجزر، وهذه المسائل الحاسمة هي:
المسألة الأولى: وهي دفع السلطة بأن توقيع الحكومة أو الرئيس على اتفاق ترسيم الحدود من أعمال السيادة. وقد شرح حكم محكمة القضاء الإداري ذلك، ورده بطريقة علمية، وفند دفع السلطة بأن هذه المحكمة جرى قضاؤها على أن كل عمل للسلطة التنفيذية يتعلق بالمعاهدات الدولية هو من أعمال السيادة يمتنع على القضاء ولائيا رقابة مشروعيته، فأكدت المحكمة أن هذا القضاء لم يجر على وتيرة واحدة، بل اختلفت أحكامه باختلاف المحل والظروف وليس قضاء متواترا. كما أكدت أن مسائل
المعاهدات ليست كلا واحدا، وليست كلها من أعمال السيادة، على ما أكدته المحكمة الدستورية العليا في حكم حديث صدر عام 2013.
من ناحية أخرى، أكد الحكم أن الإطار الدستوري الحالي هو دستور 2014، وهو إطار جديد تماما، فانطلقت المحكمة من أن جذر المسألة، وهو الحظر المطلق للتنازل عن أي جزء من إقليم الدولة، وأن السلطة التنفيذية لا يجوز أن توقع أو تقر أو تصدق على أي معاهدة تؤدي إلى التنازل.
وما دام مجلس الوزراء قرر بيانه أنه تنازل عن الجزر، ولو بصيغة أخرى على النحو الذي فصلناه في كتابنا "الحقائق والأساطير في مصرية
تيران وصنافير الصادر فى آب/ أغسطس 2016"، فإن السلطة التنفيذية يجب أن تحاذر من مجرد الاقتراب من هذا الاتفاق بأي شكل، وحكمه كحكم الخمر "فاجتنبوه". فيبطل كل عمل من جانب السلطة التنفيذية إذا أدى إلى التنازل، ولذلك لا يجوز تحصين العمل الباطل بطلانا مطلقا، أو التستر وراء أعمال السيادة لتبرير هذا العمل الباطل.
وأكدت المحكمة بوضوح أن الشعب هو مصدر السيادة، والدستور هو العاصم، فلا يمكن للسلطة التنفيذية، صاحبة الولاية الفرعية، أن تخالف الدستور، أو أن تزعم سلطة أعلى من صاحب السلطة الأصلي.
وانتهت المحكمة في هذه النقطة إلى أنه في حالة التنازل، لا يجوز الاستفتاء ولا يكون للبرلمان أي دور، ذلك أن البرلمان يمثل جزءا من الشعب، والشعب هو الأصل، كما أن الاستفتاء على التنازل باطل ومحظور؛ لأن الأرض ملك لكل الأجيال السابقة والحالية واللاحقة، فلا يجوز لشعب في لحظة معينة أن يصادر حق الأجداد والأحفاد.
وأنا أضيف أساسا خامسا لدحض أن تنازل الحكومة يعد من أعمال السيادة، بالإضافة إلى أن الحكم حسم بطلان إحالة الاتفاق المعدوم إلى البرلمان أو إلى الاستفتاء.
ونرى أن دستور 2014 الذي وضع برعاية السلطة الحالية، وانتخب على أساسه رئيس الجمهورية وشكلت الحكومة، قد حظر الاتفاقات السرية، ولا يزال هذا الاتفاق سريا، فهو معدوم بحكم سريته المناقضة للدستور.
وأضيف دفعا سادسا ليؤكد أن التوقيع على الاتفاق من أعمال الإدارة، ناهيك عن أنه عمل سري دبر بليل، واستغرق إعداده شهورا، واستطلعت أطراف دولية بشأنه في كتمان، حتى لا يعلم صاحب السيادة الأصيل وهو الشعب.
فوفقا للمادة 151، وهي مفصل النزاع من الناحية القانونية والتي انطلقت منها المحكمة، قد نصت على أن رئيس الجمهورية يوقع مشروع المعاهدة بصفته رئيس السلطة التنفيذية، وهو عمل إداري، ثم يحيلها إلى البرلمان، والبرلمان هو الذي يوافق عليها أو يرفضها، فإذا وافق عليها أرسلها لرئيس الجمهورية لكي يصدر بشأنها قرارا سياديا بصفته رئيس الدولة، وهو إقرار المعاهدة والأمر بنشرها في الجريدة الرسمية، فتوقيع رئيس الجمهورية على اتفاق الجزر هو إنهاء للتفاوض على الاتفاق، وهو عمل إداري يمارسه باعتباره رئيس السلطة التنفيذية. فالاتفاق لا يزال مشروعا بعد أن يوقعه رئيس الجمهورية بهذه الصفة، بل إن إصرار الحكومة على تحصين هذا القرار الإداري واعتباره من أعمال السيادة، وهو قرار إداري باطل يعد انتهاكا للدستور الذي يحظر تحصين أي عمل إداري بأي شكل من رقابة القضاء. أما وأن إرادة الحكومة واضحة في إسباغ الحصانة من الرقابة القضائية على قرار باطل؛ يعد جريمة دستورية مع سبق الإصرار والقهر عليه. كذلك فإنه إذا كان القضاء هو وحده الذي يحدد ما هو العمل الإداري، وما هو العمل السيادي في ظل مرونة المواد الدستورية، فإن موقف الحكومة يعتبر تدخلا في عمل القضاء وإحراجا له، واعتداء عليه يأباه الدستور الذي أقسم أطراف القضية على احترامه، فهي جريمة الحنث بالقسم، فضلا عن الحنث بالقسم على صيانة وحدة أراضي الوطن وسلامة أراضيه. ولا أظن أن أي سلطة قضائية تستطيع إغفال هذه الحقائق، إلا إذا اختارت طريقا آخر غير الدستور والمنطق القانوني، وهو ما يجل قضاءنا عن الانزلاق إليه.
المسألة الثانية: وضع الجزر في المرحلة القضائية
إذا انتهينا إلى أن توقيع رئيس الجمهورية على اتفاق الجزر عمل إداري باطل، وأن الاتفاق معدوم من أساسه لمخالفته للحظر الوارد في الفقرة الأخيرة من المادة 151، وأن السعي إلى تحصين القرار المعدوم بغطاء خطير، وهو أعمال السيادة فإن الأمر يحتاج إلى وقفة.
وقد فهمنا أن الجزر لا تزال في حوزة مصر في انتظار الانتهاء من الجدل القضائي، فما العمل إذا كانت الجزر قد انتقلت إلى
السعودية بالفعل، بمجرد التوقيع على الاتفاق بالمخالفة للدستور المصري؟ ومن يمكنه أن يؤكد أن الجزر لا تزال في حوزة مصر خاصة مع حماس السلطة لتسليمها وإنكار نسبها لمصر كلية، وأنها تدفع بكل السبل في هذا الاتجاه؟ وربما تعتمد في ذلك على أنه إذا كان حكم محكمة القضاء الإداري قد أرضى الرأي العام وامتص الغضب، فإن الجهد يتركز مع الإدارية العليا التي يظن كثيرون أن السلطة تراهن على أن موقفها لن يحرج السلطة، خاصة وأن ملابسات الموقف تشي بأن المسألة متنية، ولذلك فإنه لن يجدي عمليا، وإن كان مفيدا من الناحية القانونية، أن يصدر القضاء حكما تحفظيا بعدم تسليم الجزر، ولكني أظن أن هذا تحصيل حاصل، فإذا كانت سلطة لا تكترث للشعب وللدستور، فلا يضيرها أن تسلم الجزر وتعالج الآثار بما أجادته من صور القمع وغيره. لكنني أتردد كثيرا في أن أصدق أن سلطة مهما كان شططها تخاطر بهذه الفضيحة الكبرى التي تسقط ما تبقى من غلالة رقيقة من المصداقية عنها.
المسألة الثالثة: معايير التنازل
ارتكزت محكمة القضاء الإداري على أن الجزر مصرية، وأن نقلها إلى السعودية بأي صورة، سواء بالترسيم أو بغيره، هو بلا شك تنازل عن أرض مصرية. ولم تجادل الحكومة في أن هذا العمل تنازل، لكنها تجادل أساسا في أساس التنازل، وهو أن الجزر أصلا سعودية وليست مصرية، فيكون الاتفاق قد رد الأمانة إلى أهلها وليس تنازلا.
هذا الجدل يرد القضية مرة أخرى إلى سؤال: من هو مالك الجزر مصر أم السعودية؟ حاولت الحكومة أن تشكك في مصرية الجزر، لكنها لم تقدم ما يثبت سعوديتها سوى اعترافها بأنها سعودية، ولو كانت الحكومة قد أجّرتها لكان ذلك تصرفا من المالك ولا يعد تنازلا، وقد لا يعد كذلك تخليا عن حقوق السيادة ما دام الإيجار هو أحد مكنات الملكية الثلاثة المعروفة. أما وأن الحكومة قطعت بأنها سعودية، فهي لا تعترف بالتالي أنها تنازلت ويكون عملها في نظرها غير محظور وفق الدستور.
وحتى في هذه الفرضية، فإن عملها يعتبر تصرفا إداريا لا سياديا على نحو ما أسلفنا. من ناحية أخرى، انطلقت المحكمة من فرضية أن الجزر مصرية، وأن الاتفاق باطل وإداري؛ لأنه ينطوي على التنازل عن جزء من الأرض المصرية.
ولكي نحل هذا الإشكال، فإنني أؤكد أنه لو صح جدلا أن الحكومة ترد أمانة إلى السعودية، فإن ذلك أيضا يعد عملا إداريا يراقبه القضاء، وفقا لتمييز المادة 151 بين توقيع رئيس الجمهورية بصفتيه: الأولى وهو رئيس السلطة التنفيذية وقراراته كلها إدارية، والثانية بصفته رئيس الدولة وموافقته لاحقة على البرلمان، وهو عمل سيادي لكنه إجباري لمرحلة من مراحل إبرام المعاهدة، حيث تظل المعاهدة مشروعا حتى يقرها البرلمان ويحيلها إلى رئيس الجمهورية للموافقة والنشر.
كذلك فإنه لو صح أن الحكومة ترد أمانة إلى السعودية فهذا تنازل أيضا، وانتهاك للدستور وحنث في القسم يستلزم المحاكمة لو لم تتخذ الحكومة حيطتها في تشكيل البرلمان كما هو معروف. لكن هذا العمل لا يسقط بالتقادم، ويمكن المحاكمة في مراحل تالية، وهي تهمة العبث بالدستور، وإبرام اتفاقات سرية، والتنازل عن الجزر بالمخالفة للحظر المطلق في الدستور، وما يتفرع عن السرية من اتهامات أخرى.
ولذلك اقترحت لفريق الدفاع ثلاثة معايير للتنازل فيما لو جادلت الحكومة فيها، (وكان بودي أن أكون منضما إلى القضية حتى أقدمها بنفسي كمحام).
أساس القضية أن التصرف تنازل للغير في ملك الغير، ولذلك حظرته المادة 151 من الدستور.
وللتنازل ثلاثة مداخل:
المدخل الأول: أن التخلي عن الجزر بعد أن كانت جزءا من إقليم الدولة يوم تولى الرئيس السلطة، وأقسم على صيانة وحدتها وسلامتها الإقليمية، يعد تنازلا حتى لو كان له مقابل؛ لأن هذا التخلي ينتقص من حجم الإقليم الذي استلمه في الثامن من حزيران/ يونيو 2014.
المدخل الثاني: أن الطرف المصري هو الذي عرض الجزر، وليست هناك مطالبة جادة أو وثيقة سعودية أو جدل مصري فيها، كما أن الاحتجاج بأحداث كانون الثاني/ يناير 1950 مردود عليه. ولا عبرة لما نسب إلى الوزير المصري في المراسلات مع السعودية عام 1990 من أنه يعترف للسعودية بملكية الجزر.
المدخل الثالث: أن الجزر مصرية بكل المعايير، وأن التخلي عنها يعد تنازلا ممن لا يملك إلى من لا يستحق، رغم الزعم المصري بأنها لم تكن أصلا مصرية باجتهادات داحضة لا تقف على قدميها.
ولما كان التنازل محظورا، فإن فعل التنازل باطل ومخالف للدستور، كما أن هذا التنازل يمس في الصميم حقوق السيادة، ومن ثم تنطبق عليه إحدى الحالات الخاصة في الفقرة الثانية من المادة 151، والتي يتعين على رئيس الجمهورية أن يحيل الاتفاق الذي يمس حقوق السيادة إلى الاستفتاء الشعبي، فإن أحالها رغم ذلك الوضوح إلى مجلس النواب فإنه بذلك ينكر خصوصية طابع الاتفاق، ويكون بذلك منتهكا للدستور من حيث إنه يعتبر اتفاق الحدود المؤدي إلى التنازل اتفاقا عاديا تسري عليه الفقرة الأولى من المادة 151 من الدستور.
ونظرا لخطورة موقف الحكومة، فمن المفيد أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في تفسير المادة 151 حتى تكون نبراسا لرئيس الجمهورية عند التعامل مع هذه المادة.
وإلى أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في القضية، فيجب وقف سريان التنازل، لأن التنازل الفعلي استنادا إلى توقيع رئيس الجمهورية بصفته رئيس السلطة التنفيذية لا يجوز؛ لأنه عموما عمل إداري يتطلب إما إبطاله، إذا تضمن انتهاكا للدستور أو ترتب عليه التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة، أو إحالته إلى الاستفتاء، أو إحالته إلى مجلس النواب. والعبرة هنا بتكييف الاتفاق الذي تم التوقيع عليه، هل هو اتفاق عادي يحول إلى النواب، أم أحد الحالات الخاصة التي يجب إحالتها إلى الاستفتاء أو أنها محظورة، فيقع التوقيع باطلا. وحتى لا تسيء السلطة التنفيذية تفسير المادة 151 بشأن اتفاق ترسيم الحدود مع السعودية، فإنه يجب أن تأمر محكمة القضاء الإداري بوقف أي عمل من أعمال التنازل أو المساس بسيادة مصر على هذه الجزر، وكذلك تحويل القضية إلى الدستورية العليا لتفسير معنى التنازل وحالات حظر التصرف، وكذلك طوائف المعاهدات ودور رئيس الجمهورية في كل حالة، من حيث أن له صفتان: رئيس السلطة التنفيذية، ورئيس الدولة وفق المادة 139 من دستور 2014.