في الوقت الذي تكتب فيه هذه السطور ما تزال الجوانب المختلفة لمحاولة الإنقلاب على النظام الديمقراطي التركي تتكشف وما يزال غبارها ينقشع ببطء وسنحتاج إلى وقت طويل من البحث والنقاش والتحليل من أجل فهم أبعادها الداخلية والخارجية.
ولكن هذه السطور ستركز على ملمح مهم واحد في ما جرى ألا وهو انتصار الإرادة الشعبية قولاً وتطبيقا.تلك الإرادة التي عبرت عن نفسها بنزول الأتراك إلى الشارع وأخذ زمام المبادرة بأيديهم.
إن نداء الرئيس التركي لشعبه ودعوته إياهم إلى النزول للشارع لحماية نظام الدولة الديمقراطي بقدر ما كان مفصليا ومهما ومتبصرا بقوة الشارع في التغيير فإنه كان خياراً عفوياً وطبيعاً فأي رئيس بمكان أردوغان كان سيطلب الشيء نفسه وسيدعو شعبه للنزول إلى الميادين ولكن اللافت هو ما جرى من استجابة لا تعبر فقط عن التلاحم بين القيادة والشعب الذي اختارها بإرادة حرة وإنما تمثل وعيا عميقا لدى الشعب التركي بخطورة الانقلاب والسكوت عنه.
ما جرى أن حشود الأتراك التي نزلت إلى ميادين أنقرة واسطنبول وأزمير بصدورها العارية قامت بالفعل بتطويق الإنقلابيين .فبشجاعة لافتة أبطلوا مفعول بنادق ودبابات الانقلابيين في الشوارع فرأينا كيف تحوّلت الدبابات إلى زنازين حُبس فيها جنود الإنقلاب وأُجبروا على الخروج منها بعد أن ركلتهم أرجل المتظاهرين لتقول لهم لن تحميكم أسلحتكم عندما توجهونها للشعب.
وبالفعل أجبرت الدبابات التي أغلقت مطار أتاتورك في اسطنبول على الانسحاب ليتكرر المشهد في ساحات أخرى في اسطنبول وغيرها لتأتي قوى الأمن فيما بعد لتكمل المهمة ولنرى في مشهد تاريخي كيف يُساق قادة وجنود الانقلاب بأيدي رجال الأمن كما يساق المجرمون واستطاع الشعب تسجيل السبق بالقبض على من أجرم بحق ديمقراطيته وتسهيل مهمة إفشال الإنقلاب برمته.وفرض مقولة الشعب ومن يحميه يد واحدة دعما للديمقراطية.
فالشعب التركي عانى من انقلابات كثيرة كان للتو قد لملم جراح آخر ها في انقلاب عام 1980 الذي قاده الجنرال كنعان ايفرين مع مجموعة من الضباط متخوفاً من قوة الإسلاميين المعتدلين الصاعدة واحتمال تصدرهم الانتخابات التركية آنذاك. فكان حصاد السنوات الأولى من الحكم العسكري بعد الانقلاب إعدام 50 شخصا ومقتل 299 تحت التعذيب واعتقال أزيد من نصف مليون.
أما سياسيا فنصّب ايفرن نفسه رئيسا بانتخابات صورية في نوفمبر 1982 وفاز بنسبة “90% “ من الأصوات. ثم صاغ دستورا جعل الجيش وصيا على الحياة المدنية وحصّن جنرالات الإنقلاب من المحاكمة وأغرق البلاد في الديون.
كل تلك الحقبة السوداء تغيرت بعد 30 عاما على الانقلاب فقد استطاع حزب العدالة والتنمية تعديل دستور تركيا ما سمح بمحاكمة انقلابيي 1980 ومحو آثار تلك الحقبة السوداء ورأى الشعب التركي آثار ذلك التغيير عبر قدرته على اختيار الحكومة التي يريدها ومنحها الحصانة الشعبية المسنودة بالتمثيل الديمقراطي ما انعكس على أداء تلك الحكومات التي حرصت على الوفاء بوعودها لمن منحها الثقة وكانت النتيجة أن تحولت تركيا إلى رقم صعب ومهم في المعادلة الدولية ولاعب اقليميٍ رئيسيٍ في الشرق الأوسط فيما عاشت تركيا نهضة اقتصادية حقيقية جعلتها سادس قوة اقتصادية في أوروبا وفي المنزلة السابعة عشر دوليا وأصبحت دولة تمنح القروض بعد أن كنت تستدينها.
فهل يمكن للمواطن التركي أن يفرط بكل تلك الإنجازات السياسية والإقتصادية وهل كان ليتردد في حماية مكتسباته بدمه؟ لا نجانب الصواب إن قلنا إن الشعب التركي هو من أفشل الانقلاب وأعطى درساً في قدرة الإرادات الحرة في الانتصار والتغلب على قوى القهر التي تريد الهيمنة على خياراته وتقصف برلمانه بسلاح سرق من أقوات الشعب.
إنه يوم عظيم يحق لأحرار تركيا أن يحتفلوا فيه بانتصار الديمقراطية في بلادهم ووأد الانقلابات إلى غير رجعة، ويحق لنا حميعا أن نستبشر بفشل كل الانقلابات العسكرية.