انقلابان عسكريان في دولتين إقليميتين كبيرتين، إحداهما عربية، والأخرى مسلمة لكن غير عربية.
انقلاب نجح دون معوقات أو عراقيل، والآخر فشل ودفن في مهده.
مصر الدولة العربية الكبرى انقلبت على أول رئيس جمهورية مصري منتخب منذ فجر التاريخ، وأزاح العسكر رئيسهم، واعتقلوه وأذلوه، وصدرت بحقه أحكام قضائية تجرمه وتدينه وترسله إلى السجن المؤبد.
صمتت مصر على ما يجري، وضحت بالديمقراطية التي يمكن أن تكون نظاما سياسيا مسعفا للجميع، وارتضت بقتل الديمقراطية قبل أن تنمو وتكبر. وهكذا كان حال أغلب مثقفي مصر وكتابها الذين صفقوا للانقلاب دون أي رادع ديمقراطي أو وازع أخلاقي. هؤلاء المثقفون والكتاب الذين كانوا يتحمسون للديمقراطية ويصرون على تبنيها، تركوها وحدها تواجه مصيرها الأسود على يد العسكر، بل وقدموا الدعم للذين انتهكوها وأفشلوا تجربة سياسية كان من الممكن البناء عليها من أجل مستقبل أفضل لمصر.
من التجربتين، واضح أن الرئيس التركي كان أكثر ذكاء من الرئيس المصري، وعمل عبر السنوات على بناء دولة حاضنة لأفكاره وآرائه وسياساته وحزبه، لقد جمع الناس حوله من خلال التركيز على معالجة همومهم وتحسين ظروفهم الحياتية والمعيشية. لقد أحبه الناس ووقفوا معه وأعطوه ثقتهم في الانتخابات، ونجدوه عندما أصبح في مأزق. أما الرئيس المصري فحاول ممارسة الاستبداد العربي من خلال الانتخابات، وكان فوزه فرصة للتفرد في الحكم، أو إقصاء الآخرين، ولم يعط نفسه فرصة لتركيز دعائمه، ولاختبار مقارباته لمعالجة هموم الناس من خلال سياسات واقعية، وهو بذلك فسح مجالا للهجوم عليه وتشويه صورته مما هيأ الأجواء للانقلاب عليه بذرائع المصالح الوطنية المصرية.
تصرف الشعب التركي حيال الانقلاب العسكري مختلف تماما عن تصرف الشعب المصري من حيث أن الأتراك لم يخضعوا للانفعال، ولم تستهوهم العبارات الرنانة الصادرة عن الانقلابيين، وأعطوا أنفسهم عدة ساعات للتفكر فيما يجب أن يُعمل. أما الشعب المصري فسرعان ما شارك بالزفة وقدم الدعم للانقلابيين وساهم في إسقاط الرئيس. لقد خشي الشعب التركي على الديمقراطية التي تطورت وأزهرت، بينما لم يكترث المصريون كثيرا بالأداء الديمقراطي ولا بالانتخابات التي تشكل مصدر شرعية الحكم. خرج الأتراك إلى الشوارع يدافعون عن رئيسهم، بينما خرج المصريون إلى الشوارع للإطاحة برئيسهم.
كان ملاحظا أن بعض أحزاب المعارضة التركية، التي تتمسك بالفكر القومي، وقفت ضد الانقلاب أيضا؛ خوفا على الديمقراطية. وكان لسان حال هذه الأحزاب يقول إنه إذا انقلب العسكر على أردوغان فهم سينقلبون علينا أيضا، وبهذا تدخل البلاد في متاهات ومشاكل تعقد الأمور وتسيء إلى الاستقرار السياسي في
تركيا.
أما في مصر، فوقفت المعارضة مع الانقلابيين، وساهمت في نشاطات الانقلاب، ولم تعر انتباها لمصدر الشرعية السياسية ولا لمستقبل مصر. الآن ستندفع تركيا بالمزيد إلى الأمام، بينما ستبقى مصر تئن من مشاكل داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية متنوعة.
لقد أصاب أردوغان عندما رتب إدارة بلاده وفقا لمبادئ وأسس واضحة، وصنع بذلك انسجاما بين مختلف مؤسسات الدولة، وجعل الإدارة رديفا وعونا للنظام السياسي. أما مرسي فيبدو أنه لم يكن صاحب رؤية إدارية، وترك الدولة العميقة كما وجدها وبتناقض مع الرؤية السياسية والاجتماعية لجماعة الإخوان المسلمين. لكن نأخذ بعين الاعتبار أن مرسي لم يستمر فترة طويلة في الحكم لنرى كيف كان من الممكن أن يرتب الأوضاع. أردوغان حصل على فرصة زمنية طويلة وكان حكيما من الناحية الإدارية، أما مرسي لم يحصل على ذات الفرصة، لكن يكفينا المدة التي أدار فيها مصر لكي نستنتج بأنه لم يكن صاحب فلسفة إدارية. ومن ناحية أخرى، أخطأ أردوغان في أنه ركز على صناعة الأعداء، وأحاط تركيا بأعداء من كل الجهات، وربما يكون هذا العامل الأساس في اندلاع الانقلاب، أما مرسي فاستفز الناس بحيث أنه ترك مجالا ضئيلا لنفسه ليناور نحو استمرار الحكم.
على كل حال، نحن العرب بحاجة للاستفادة من الدرس التركي، ومن المهم ألا ندير ظهورنا للمبدأ ونعطي الأولوية للمصالح الحزبية أو القبلية أو التنظيمية. المبدأ يبقى هو الأساس.