في الشرق القديم تعتمل وتتفاعل عوامل السخط والغضب الشعبي المتنقل، فبين تصاعد الإرهاب الطائفي الانتقامي في العراق، واشتعال نيران الانتقام الروسي/ الإيراني من الشعب السوري، ودخول المنطقة برمتها في جحيم الحروب الطائفية والعمليات الإرهابية التي أسقطت أعدادا لا تحصى من الأرواح البشرية، كما حصل في العراق وفي المملكة العربية السعودية خلال الأيام الماضية، تدور عجلة العنف، لتمتد الموجة الغاضبة للعمق الإيراني بعد تصاعد التوتر الداخلي واشتعال التظاهرات الشعبية الرافضة للحرب والتوسع والتمدد، والمنددة بالصعوبات والمشاكل الاقتصادية والحياتية التي يعانيها الإنسان الإيراني، من خلال التورط في حروب استنزاف إقليمية دموية مكلفة، التهمت كل العوائد المالية المخصصة للتنمية وحل مشاكل الناس الحياتية المتراكمة والمتفاقمة.
لقد شهدت المدن الإيرانية بدءا من الأحواز ومرورا ببوشهر ووصولا لأصفهان وصعودا لكردستان إيران احتجاجات شعبية ذات مغزى لمن يقرأ حركة الشارع الإيراني، وهو شارع تتراكم فيه اليوم كل تناقضات السياسة الإيرانية التي تعيش مرحلة انتقالية هي الأصعب منذ رحيل الخميني عام 1989، فربيع طهران الثوري أو الثورة البنفسجية التي حركت الشباب الإيراني عام 2009 أضحت اليوم مجرد ذكرى كان ثمنها تجميد نشاط كبار رموز التيار الإصلاحي كمهدي كروبي ومير حسين موسوي، ولكن من يقرأ التاريخ الإيراني ويستوعب دروسه سيعلم على الفور من أن المفاجآت هي سيدة الموقف دائما وأبدا، وأن تغيير الصورة العامة في إيران عادة ما يكون فجائيا، فحتى عام 1977 كانت تقديرات السياسة الأمريكية تقول بأن إيران جزيرة من الاستقرار في محيط هائج! فإذا بالتطورات الثورية المتسارعة تثبت عدم دقة ذلك التحليل لينفجر الشارع ويتهاوى عرش الطاووس عام 1979! لتجري بعد ذلك مياه ودماء ودموع وأحداث جسام تحت كل الجسور في إيران، التي تعيش اليوم الإرهاصات الحقيقية لوضع انتقالي باتت جميع الدوائر والتيارات الحاكمة والمتصارعة تسابق الزمن للاستحواذ على مسارات المستقبل السياسي لبلد مركزي مهم في المنطقة، عاش جميع مراحل سنوات الغليان، وقد وصل اليوم لطريق مسدود في ظل عدم تبلور نتائج واضحة من الاتفاق الإيراني مع الغرب بشأن المشروع النووي، والانشغال السلطوي المرهق في إدارة معركة إقليمية كبرى في الشرق وتحديدا في ساحات العراق والشام واليمن يمكن وصفها دون مواربة، بكونها معركة المصير للنفوذ والتمدد الإيديولوجي والعسكري الإيراني في الشرق.
ويلقي تحرك القوميات غير الفارسية كالعرب والأكراد والبلوش بظلاله القاتمة على صورة المشهد المستقبلي الإيراني، في الوقت الذي تمارس فيه حركة المعارضة الإيرانية في الخارج ممثلة بجماعة (مجاهدي الشعب الإيراني) أو (مجاهدي خلق) تحركا سياسيا وإعلاميا نشيطا وملفتا للنظر، ويحظى بدعم دولي واضح من خلال التجمع الدولي الكبير لنصرتها في العاصمة الفرنسية باريس! وهو تجمع سنوي اكتسب هذه السنة زخما قويا ودافعا نفسيا ومعنويا مثيرا للاهتمام.
لا شك أن إيران اليوم بحالة نزيف عسكري عنيف جدا لدعم مواقعها في الشرق، لذلك كان رد السلطة على الاحتجاجات الشعبية في الأحواز العربي وفي كردستان إيران ردا قويا وقمعيا مورست فيه أقصى درجات العنف السلطوي المفرط، وسقط عدد من القتلى في شوارع المدن العربية والكردية في إيران، وهو ما يعني بأن وتيرة الاحتجاجات لن تهدأ مع ارتفاع سقف المطالبة الشعبية بالخروج من المستنقع السوري، والتخلي عن نصرة نظام بشار الأسد، وتركيز الاهتمام على الاحتياجات الملحة للداخل الإيراني، وهو الأمر الذي يرفضه التيار المتشدد المتمسك بالشعار القديم في (تصدير الثورة)، وتوسيع المجال الحيوي للنظام؟ وهو الأمر الذي لم يعد متاحا بسهولة، فمعالم وإرهاصات التغيير تبدو واضحة وجلية، والشارع الإيراني لا يتحمل المزيد من العنف المفرط، فزيادة الضغط قد تؤدي لانفجار داخلي لا تحمد عقباه، في وقت يبدو فيه واضحا أن هنالك تغييرات كبرى قادمة في أعلى هرم السلطة! إيران تغلي فوق بركان الصراعات الداخلية والإقليمية، والسباق نحو تكريس صورة المستقبل هو السمة الواضحة اليوم، فهل سيتم تجنب انفجار بركان الغضب الشعبي، أم إن المواجهة بين التيارات المختلفة قادمة لا محالة؟! ولكن في جميع الأحوال فإن إيران فعلا تقف اليوم أمام فوهة بركان هائج.