لا تكتمل دائرة القراءة السياسية عن السياسة
الفلسطينية إلا بالحديث عن السياسة (
الإسرائيلية). والحديث عن السياسة (الإسرائيلية) لن يستوعب كل مراحل هذه السياسة، وإنما يمكن التطرق إليها بإيجاز. (فإسرائيل) عبرت عبر سنيها من الكيبوتس إلى المستوطنة، ومن الزراعة إلى المعرفة، ومن اليسار إلى اليمين وهكذا.
الحديث عن الكيبوتس والمستوطنة لا يعني أن الكيبوتس لم يكن مستوطنة، بل هو بحد ذاته مستوطنة، لكن القصد شيء آخر مختلف. فبينما كان الكيبوتس فيما مضى مصدر التجييش، أصبحت المستوطنة اليوم هي مصدر التجييش والتجنيد، ويمكن مراجعة كتاب (لتعلم كل أم عبرية، عاموس هرئيل). ولا شك أن هذا ينعكس على السياسات العامة، فيعزز من سياسة الضم وابتلاع الأراضي وإقامة المستوطنات، وإدارة الظهر لما يعرف بالتسوية أو التنازلات الإقليمية، مع العلم أن اليسار هو من بدأ بالاستيطان، وهو من أرسى مناطق (أ ب ج)، وتحدث عن المستوطنات الأمنية والسياسية والنمو الطبيعي.. إلخ. لا يفوتني أن أشير إلى أن المفهوم الأمني هو الذي ما زال يحكم (إسرائيل)، وقوى اليمين التي تحكم اليوم تدور في فلك الرؤية الأمنية التي وضعها قادة جيش الاحتلال من اليسار فيما مضى، ومن ذلك طبيعة وحدود التسوية في الضفة الغربية وعلى وجه التحديد من الناحية الجغرافية، ومشروع (ألون) نموذج في ذلك. لا أعتقد أن اليسار متساهل كما يظن بعضهم، بل هو متشدد وتحديداً في السياسات الأمنية أكثر من اليمين. لكنه ينتهج سياسة اللف والدوران واللعب بالأوراق والتحذلق بما لا يطاق.
مع صعود اليمين عام 1977 بدأت التغيرات تميل لصالح معسكره داخل المجتمع والجيش، وكما ذكرت كان الانتقال من الكيبوتس إلى المستوطنة، ومن الزراعة إلى المعرفة، ومن القطاع العام والسياسات الاجتماعية إلى الانفتاح والخصخصة، وما غرسه اليمين يوماً في المؤسسة الأمنية بدأ يؤتي أكله على مدى الزمن. في الأثناء تصارعت رؤيتان داخل (إسرائيل) حول التسوية مع العرب والفلسطينيين، الأولى: قادها رابين وبيرس وخلاصة التصور حولها تجده في أطروحات بيرس حول الشرق الأوسط الجديد الاقتصادي مع بعض التنازلات الإقليمية، وهي الرؤية التي عارضها اليمين بشدة، ورأى فيها كارثة على (إسرائيل)، وقد ترافق ذلك مع اتفاق أوسلو. وقد قاد اليمين التحريض العلني والمبطن ضد هذه الرؤية وأصحابها والتي أدت في النهاية إلى مقتل رابين وتراجع اليسار وتقدم اليمين.
الشرق الأوسط الذي يراه اليمين هو الشرق الأوسط الذي يقوم على السلام مع العرب دون الفلسطينيين، ومن دون تنازلات إقليمية، ومن دون منح الفلسطينيين أي رمز سيادي يمكن أن يتطور على محور الزمن وتحت ضغط الشرعية الدولية إلى واقع يهدد دولة (إسرائيل) على حد زعمهم. وحتى يمكن التعرف على هذه الرؤية لا بد من قراءة كتاب (مكان تحت الشمس) لنتنياهو، ففيه لخص جلّ أفكاره التي يؤمن بها حيال
القضية الفلسطينية.
ذكرت سابقاً أن الرؤيه الأمنية لها تأثير واضح على مسار الأحداث، وما زالت حتى هذه اللحظة، فالحالة التي آلت إليها أوضاع جيش الاحتلال والناجمة عن الانتفاضة الأولى وحرب لبنان جعلت قدراته تتآكل على محور الزمن. وأعني بالقدرات هنا تلك المتعلقة بالإنسان المقاتل ومعنوياته ودافعية القتال والاستنزاف المتواصل لهذا الجيش. تراجعت هذه القدرات في هذا الجانب وتراجعت معها قوة الردع أيضاً بسبب طبيعة الحرب الجديدة التي بات هذا الجيش يواجهها، وهي حرب غير كلاسيكية، وكثيراً ما قرأنا وسمعنا جنرالات يحذرون من انغماس الجيش في الأعمال الشرطية التي تؤثر على الاستعداد والتدريب، هذا فضلاً عن انهيار قوات الاحتياط وتراجعها بشكل ملحوظ.
تآكلت قوة الردع كما قال بعضهم (أهارون ليفران، في كتابه أفول قوة الردع) عشية الانسحاب من لبنان، وبات السؤال المطروح في الجيش عن الحرب القادمة: أين؟؟ كان الجواب في الضفة الغربية وغزة وذلك لاستعادة نوع من الردع المفقود، وقد قاد هذا التوجه جنرالات مثل يعلون وجلعاد، وهما من أكثر الشخصيات أثراً في المؤسسة الأمنية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وصولا إلى ذروة المواجهة وإعادة احتلال مدن الضفة الغربية عام 2002. الحرب التي شُنت في الضفة وغزة لم تهدف إلى استعادة جزء من الردع المفقود فحسب، بل هدفت أيضاً إلى إعادة ترتيب أوراق القضية الفلسطينية ولمنع إمكانية قيام دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت إزاحة عرفات هدفا أيضا، وكذلك فرض التصور الأمني الإسرائيلي في العلاقة مع الفلسطينيين. والجيش هو الذي قاد هذه المواجهة، وافتعل الأحداث من أجل استمرارها بخلاف ما عليه الأمر الآن، فالجيش لا يريد الانخراط في المواجهة قدر الإمكان.
ومن يطلع على كتاب يعلون الذي جاء بعنوان: (طريق طويلة قصيرة) يدرك كثيراً من خبايا هذه الحرب. فهو من الذين يؤمنون بأن حرب عام 48 لا زالت مستمرة. اعتقدت (إسرائيل) أنها استعادت جزءاً من الردع المفقود، والذي عاد وتهشم عام 2006 وما تبع ذلك من معارك في غزة. لكنها ما زالت تعتقد أن ما وصلت إليه في الضفة الغربية من إعادة ترتيب الأوراق، هو الوضع الأمثل المأمول من الناحية الأمنية والذي يمكن السياسيين من حرية الحركة والمناورة. أزمة السياسة (الإسرائيلية) تتمحور اليوم في طبيعة الجمود الذي تعيشه هذه السياسة، وهي تلك التي تتعلق بسيطرة اليمين عموماً وفي المركز منه الليكود على السلطة وعدم وجود قوى أخرى قادرة على المنافسة، بل وعدم وجود شخصية منافسة في اليمين ذاته لنتنياهو. فرغم كل الحملات التي قامت ضده من الداخل والخارج إلا أنه استطاع البقاء، وهو ما زال المرشح الوحيد في الانتخابات القادمة، إلا إذا قررت السلطة العميقة في الشرطة الإطاحة به عبر تحقيقات تهم الفساد، ولا ندري إلى أين يؤول الأمر.
نتنياهو يؤمن بعقيدة اللاحل كما يرى ذلك بعض الكتاب (أنطوان شلحت)، لذلك ستبقى الأمور تراوح مكانها لصالح مزيد من ابتلاع الأراضي والضم والتهويد تحت ستار أن هناك عملية سلام جارية ويأمل نتنياهو أن يكون التغيير القادم في الساحة الفلسطينية بيد عربية. والهدف النهائي من ذلك التسوية مع العرب، مع غياب العنصر السياسي الفلسطيني. وما بدأته مصر مبارك – عمر سليمان من إزاحة لعرفات تستكمله اليوم دول عربية أخرى لفرض نمط جديد من القيادة على الشعب الفلسطيني ضمن شروط وتصورات (إسرائيل) ويجري تبييضها على أيدي هذه الدول.
تستغل إسرائيل مخاوف هذه الدول وهواجسها المتمثلة في استبدالها واستبعادها من السلطة، والمتمثلة أيضا في الهاجس الإيراني وكذلك في محكمة الجرائم الدولية، وتحاول فرض رؤيتها عليهم في حل القضية الفلسطينية. إنه بدل أن تستفيد الدول العربية من صمود الشعب الفلسطيني وتأزم السياسة الداخلية (الإسرائيلية) وتراجع قدرة الجندي الإسرائيلي على القتال، فإنها تعمل على تحطيم هذا الصمود وتحويل الهجوم (الإسرائيلي) المزدوج على الشعب الفلسطيني إلى أمل بتحقيق الانتصار عليه من قبل (إسرائيل). فيا لها من مفارقة عجيبة ساخرة، ولا أملك إلا أن أقول ما قاله الإمام أحمد بن حنبل: "إذا رأيتم اليوم شيئاً مستوياً فتعجبوا". هذه السياسة (الإسرائيلية) لا تقبل ولا تحتمل بأي حال من الأحوال فكرة المصالحة الفلسطينية الداخلية، بل ولا تقبل ولا تحتمل أي عمل سياسي يقوم على أسس غير التي قررتها هي في حملتها الأخيرة على الضفة وغزة. التجربة تنبئنا بأنه كلما طال الزمن على دولة (إسرائيل) تراجع الإنسان فيها. صحيح أنها تزداد تقدماً في مجالات عديدة، لكنها تتراجع على مستوى الإنسان كما ذكرت، ومعظم الحروب التي تخوضها تهدف إلى استمرار تجييش المجتمع (الإسرائيلي)، وإشعاره بالخطر المحدق وتحذيره بأنه لا ينبغي له الركون إلى الدعة والرفاه. كثيرة هي الحروب التي خاضتها لأسباب داخلية لا خارجية كما يذهب لذلك (أوري بن آليعازر في كتابه حروب إسرائيل الجديدة).
إن الجيش الذي صال وجال في الضفة وغزة والجولان عام 1967 وفي سيناء 1956، لم يعد قادراً على الاستمرار في مثل هذه الحروب، فهو يريد اليوم حروباً قصيرة وناجعة. ولكن أنّى له ذلك في ظل تغير المعادلة الحربية. إن السياسة الإسرائيلية تعتمد على جيشها بسلاح جوّه ومدرعاته، وتعتمد أيضاً على التعاون العربي غير المسبوق الذي يتبجح به نتنياهو صباح مساء، ودوري جولد وغيره من الساسة (الإسرائيليين). التعاون العربي غير المسبوق بات على ما يبدو مهماً ورافدا خارجياً للسياسة الإسرائيلية كما هو الرافد الأمريكي والأوروبي.
الخلاصة: في ظل هذه السياسة لا مكان للمصالحة ولا مكان للتنازلات الإقليمية ولا مكان للحل مع العنصر السياسي الفلسطيني، الحل هو مع الدول العربية فقط.