قالوا "قليل الحظ يجد العظم في الكرشة"، ولهذا فقد كنت أمني نفسي بالبعد عن السياسية عندما امتدت يدي لقراءة الجزء الثالث من مذكرات الدكتور يوسف
القرضاوي "ابن القرية والكتاب.. ملامح سيرة ومسيرة"، فإذا بي ومنذ السطور الأولى أجدني في قلبها، وأكتشف أن الماضي قريب من الحاضر، بل لعل العسكر يعيدون "الحكاية" نفسها بتفاصيلها!
كانت الأجزاء الأربعة من مذكرات الشيخ أمامي، عندما وقع الاختيار على الجزء الثالث، وبطريقة غير مقصودة، أتبعها كثيرا، وما يقع الاختيار عليه هو "القسمة والنصيب"، وكان الأمر واضحا منذ السطر الأول، بأني لن أهرب بعيدا عن السياسة كما ظننت، لكن لأني اعتبرت أن الأمر له علاقة بـ "القسمة والنصيب"، فلم أتراجع، فهل وجدت في تطابق الأحداث ما دفعني إلى الاستمرار؟ التي كانت عن محنة الإخوان، على يد حكم العسكر في 1965، وكأنه يكتب عن محنتهم الآن، وهل يشفع للقوم، بعد هذه المحنة، أنهم وقد رأوا نيوب الليل بارزة فظنوا أن الليث يبتسم، أم أغراهم بأن السيسي المنكمش بالبرودة في حضرة الرئيس كما تقول كل الصور، لا يمكن أن يكون هو الليث؟!
لم تكن هذه أول معرفة لي بمذكرات "ابن القرية والكتاب"، فقد قرأت بعض فصولها المنشورة عبر الصحف السيارة، وقد نشرتها دار "الشروق" المصرية، قبل ثورة يناير، وقبل أن تصدر "أوامر الحكم العسكري" بوقف طباعتها، ليس لأنها تذكر بمحنة الإخوان الكبرى، كما وصفها الشيخ، فالحاكم العسكري الحالي لا يقرأ ولا يكتب، ولكن لأن "الإمام" مُستهدف في حد ذاته، لذا فالقرار بوقف طباعة وتداول كتبه في مصر، وما عرف منها من وسطية واعتدال، ليس فقط لأنه وقف ضد الانقلاب العسكري، في (يوليو 2013)، ولكن لأنه بالإضافة إلى هذا فإن أركان حكم مبارك، الذين عادوا للحكم الآن، لم ينسوا له دوره في نصرة الثورة، وقد سمحوا لمخطط فض الثورة بالقوة للنفاذ لميدان التحرير في يوم موقعة الجمل، فإذا ببيان "القرضاوي" الذي أذاعته قناة "الجزيرة" عشرات المرات في هذا اليوم، يدفع بالناس للحضور لميدان التحرير، وقد أفتى في بيانه بأن الذهاب للميدان لنصرة من فيه فرض عين على كل قادر عليه، فتدافع الناس إليه من كل فج، على نحو فوت مؤامرة القوم!.
ولم يكن غريبا أن يضعوه بعد نجاح الثورة المضادة على رأس قائمة الأعداء، ولم يتوقف أمرهم عند وقف طباعة وتداول كتبه، لكن أصدورا ضده أحكاما قضائية بالإدانة وأغروا به سُفهاءهم في الإعلام، فتطاولوا عليه، وهو تطاول لم يحدث في أي عهد من العهود، لأن بيانه كان له أثره الكبير الذي اكتمل به مشهد حماية "ميدان التحرير" من مخطط إنهاء الثورة، لا تنس أن "الخيل، والبغال، والحمير" التي جاءت من منطقة الأهرامات كانت تحت بصر قوات الجيش، وهي التي مهدت لها الطريق للدخول!
آخر مذكرات قراءتها كانت لبلدياتي الدكتور "محمود الربيعي" وهي في كتابين الأول حمل عنوان: "في الخمسين عرفت طريقي"، والثاني عنوانه: " ما بعد الخمسين"، واللافت أنه لا يوجد فيهما سطر واحد في السياسة، رغم أنه عاصر أحداثا جساما، فلا كلمة عن حركة ضباط الجيش في يوليو 1952، ولا ذكر لهزيمة يونيو 1967، ولا شيء عن نصر أكتوبر 1973، وإذا كان من تعرضوا لهذه المذكرات بالنقد، قد تطرقوا لعدم اكتراث "الربيعي" بالسياسة، فقد أعجبت بقدرته على أن يعزل نفسه تماما عنها، فلا يبدو حتى مهتما بأمور تدخل في باب الوطنية وتثير اهتمام المواطن البسيط!
وقد وجدت في مذكرات "الربيعي" مادة للتسلية، لا يكدر صفوها معركته مع قيادات كلية دار العلوم، التي كان يعمل أستاذا فيها، وقد تركها في "الخمسين" ليعمل أستاذا بالجامعة الأمريكية، وقد علمت أنه الآن عاد لدار العلوم أستاذا غير متفرغ فقد تجاوز التسعين من عمره!
أما مذكرات "القرضاوي" فهى مشتبكة مع الأحداث التي شهدتها مصر والأحداث الخارجية أيضا، لأنه كان جزءا منها بشكل أو بآخر، وهي لا تنقصها التسلية عندما يتحدث عن رحلاته الخارجية، وعن زواج بناته، وعن محاولة نظام مبارك تجنيده عبر وزير أوقافه الدكتور محمد على محجوب، وهو بالمناسبة والد القاضي، الذي بدأت على يديه أول مؤامرة قضائية ضد الرئيس محمد مرسي، وهو في الحكم، في ما عرف بقضية التخابر مع حركة حماس وفتح السجون!
في مقدمة الجزء الثالث قال الدكتور "يوسف القرضاوي" ، إنها تشمل الفترة من سنة 1965، إلى سنة 1978، وعند ذكر السنة الأولى فلابد أن أعرف أنه سيتعرض لمحنة جماعة الإخوان في هذه السنة، لكني كنت قد بدأت في القراءة، ولأنها قاعدة "القسمة والنصيب"، فقد وقع الاختيار على الجزء الثالث، لتجعلنا الأحداث أمام تسلية من نوع آخر!.
اللافت، كما في المذكرات، أن هذه المحنة جاءت والإخوان في حالة كمون بعد محنة سنة 1954، فكانت "مفاجئة لجمهور الإخوان، فقد داهمتهم على غفلة دون توقع منهم، ولا عمل قدموه يمكن أن يؤاخذوا عليه. فقد كان أكثرهم منصرفا إلى عمله المعيشي اليومي".. "كان هذا اتجاه جمهور الإخوان بعد محنة 1954م- 1965م، هو الكمون والسكون حتى تتغير الأحوال، وتواتي الفرصة. والتغيير حقيقة كونية"
عند قراءة هذه الأحداث، فسوف يستقر في الوجدان أن التغيير لم يطرأ على طرفي هذه الأزمة، فلا يخفى على متابع أن هناك فريقا في جماعة الإخوان، يرى ضرورة الكمون وكأن ثورة لم تقم، وفي المقابل فإن الطرف الآخر لم يمنعه هذا السكون من أن يواصل تنكيله، على نحو دفعه لتصفية من ربما آثروا السلامة، وباقتحام بيوتهم عليهم وقتلهم فيها بدم بارد. فلا يغني حذر من قدر!.
وكأن أسلوب التشويه نفسه لم يتغير، فإذا كان الحكم العسكري وأذرعه الإعلامية لم يتوقفوا عن تعليق كل اتهام في رقبة الإخوان في محنتهم الآن، فقد تم اتهامهم إعلاميا في هذا المحنة بأنهم خططوا لاغتيال أم كلثوم وأنهم كانوا يخططون لنسف القناطر الخيرية!
وعلق صاحب المذكرات على الاتهام الأول: "وهل يفكر في ذلك من له ذرة من عقل؟ وماذا ارتكبت أم كلثوم من جرائم تستحق عليها القتل؟ وهل يقتل عاقل إنسانة يحبها جماهير الشعب المصري – بل العربي كله – ويعرض نفسه لسخط عام دون حاجة لذلك" ؟!.
أما الاتهام بالتخطيط لنسف القناطر الخيرية، فقد علق صاحبنا بقوله: "وماذا يستفيد من ذلك إلا الهلاك والخراب؟ وإذا كان يريد أن يحكم البلاد، فكيف يخربها قبل أن يستولي عليها"؟.
لقد شغلني في هذا الجانب من المذكرات الشخص الذي ألمح له الشيخ بالرموز، فهو "ع. ع. ع" فمن هو ؟ سألت البعض ممن ينتمون للإخوان لكن لا أحد يعرفه، واستقر في وجداني أن أحدا ممن سألتهم لا يريد أن يبوح باسمه، فهو ليس إنسانا نكرة، وإلا ما كان الشيخ أشار إليه بالرموز!
"ع. ع. ع" هذا عبر عنه الشيخ "القرضاوي" بأنه "شخص اشتروه بالإغراء، والتأثير والوعيد، والعفو عنه من حبل المشنقة، فخارت قوته، وانهزمت إرادته، فسقط في أيديهم فريسة سهلة، وأمسوا يلقنونه ما يجب أن يقول، فيذعن لهم ويصبح رجع الصدى لما يقولونه"!
ويبدو حكم الشيخ عليه قاسيا، ".. لأن الذي يبيع نفسه للطاغوت، فقد خسرها بالمرة، وهذا لون من الشرك بالله، الذي ينحط به الإنسان إلى أسفل الدركات".
للشيخ موقف غاية في القسوة من أعوان الظلمة في المجمل، ولمن ساعد الحكام الظالمين في مهمتهم ولو بشطر كلمة، فلا يلتمس لهم عذرا، ولا يقبل منهم ضعفا.
ربما تطرح هذه القصة أسئلة عدة، كل إنسان له سؤاله المنطلق من اهتماماته
فهناك من سؤاله: تُرى من هو "ع. ع. ع" الجديد؟!
وهناك من سؤاله: إلى متى تصبح قواعد الصراع بين الإخوان والعسكر هي، هي لا تتغير وبالأساليب نفسها، وكأن كلاهما فقد القدرة على الإبداع؟!