يتمم عبد الفتاح
السيسي اليوم، الموافق 8 حزيران/ يونيو 2016، عامه الثاني على كرسي رئاسة
مصر، ويبدأ عامه الثالث، بعد أن قام بانقلاب عسكري على أول رئيس منتخب لمصر الدكتور محمد مرسي.
وعقب استيلاء السيسي على الحكم، عملت النخبة والنظام الجديد على تصعيد الآمال ورفع سقف الطموحات والأحلام لدى الشعب المصري والتلاعب بعقولهم بشأن تحقيق طفرة قوية في كافة قطاعات الدولة، ولكن تلك الأحلام سقطت تماما من ذاكرة الحكومات التي توالت على البلاد في عهد السيسي لتقتصر تلك الأحلام على خطابات "عنترية" لا أساس لها على أرض الواقع.
يرصد هذا المقال التحليلي، كشف حساب لجانب من بعض أزمات السيسي، والتي لا حصر لها، ويحاول إلقاء الضوء على دوره في تقزيم حجم مصر على مدار العامين الماضيين.
وداعا للبرامج الانتخابية
عندما قرر الجنرال تجميل استيلاءه على كرسي الرئاسة، بمسرحية انتخابية هزلية، أرسى مبدأ جديدا من نوعه لضرب التجربة الديموقراطية في مقتل، وذلك عندما قرر ألا يتقدم بأي برنامج انتخابي خلال حملته الانتخابية في خطوة مخالفة للأعراف الدولية والتجارب الانتخابية السابقة، وكان يبرر تبنيه لهذا المبدأ إما بأن البرامج تكشف تفاصيل حساسة تؤثر على الأمن القومي، وإما بأن الشعب هو الذي استدعاه دون أي اشتراطات.
وقبل مرحلة الصمت الانتخابي بفترة قصيرة وتحت انتقادات شديدة من المقربين له أعلن السيسي ملامح عامة قال إنها الخطوط العريضة لبرنامجه، دون ذكر أي تفاصيل، ومع ذلك لم ينتقد الإعلام ولم يلم، بل اتجه كل حديثه إلى أن السيسي لا يحتاج لبرنامج ويكفيه ما قدمه للمصريين يوم 3 تموز/ يوليو في الوقت الذي اجتهدت فيه بعض وسائل الإعلام بإقناع الجمهور بأن الخطوط العريضة التي أعلن عنها السيسي ترقى أن تحل محل برنامج انتخابي محكم.
تثبيت حكم الفرد
عمل السيسي منذ توليه الرئاسة على ترك الملفات الأساسية التي يُعاني منها الشعب دون علاج مثل ملف إدارة العدالة ووصول الحقوق إلى أصحابها والعدالة الاجتماعية وكفاءة النظام الضريبي والتعليم والعلاج وخدمات المحليات وصب الرجل كل اهتمامه على تثبيت حكمه ووضع مصر في قبضة يده وسلك في ذلك مسالك عدة منها:
ملاحقته للمخالفين له في الرأي بالسجن والتعذيب والقتل ومطاردته لخصومه من السياسيين بقوانين يكتبها له الخدم من أتباعه ويُصيغونها في صياغة هُلامية مطاطة ويساعده في تنفيذ هذه المهمة أجهزته العسكرية والأمنية والقانونية والقضائية، بحيث صارت أحكام القضاء المصري في خلال عدة أشهر من حُكم السيسي عارا على الحضارة الإنسانية.
وخلال عامين من حكمه، أصدر الجنرال 510 قرارات وقوانين، وفقا "للمرصد المصري للحقوق والحريات"، مخالفة لمبادئ ومعايير حقوق الإنسان ومقيدة للحريات في مصر، وهو ما وصفه عدد من الدستوريين بالترسيخ لبناء ديكتاتورية غير مسبوقة في مصر، حيث صدرت قوانين عدة منها قانون التظاهر الذي دمر الشباب، وقانون التصالح الذي شرع نهب مصر، وقانون الإرهاب الذى قضى على آخر كلمة "حرية" كانت متواجدة في مصر، وقانون عزل رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية بموجب القرار بقانون رقم 89 لسنه 2015، وقرار السماح لوزارتي الداخلية والدفاع بتأسيس شركات حراسة خاصة لحماية المنشآت ونقل الأموال، وهو ما اعتبره العديد من النشطاء ورؤساء الأحزاب والحقوقيين تمهيدا لتأسيس مليشيات مسلحة معترف بها من النظام المصري وسعيا منه لتثبيت حكمه الفردي.
ولم يكتف السيسي بالقرارات السياسية أو المتعلقة بالأمن فقط، بل امتد أيضا لعدد من القرارات الاقتصادية، أولها ما أصدره بخصوص إنشاء صندوق ذي طبيعة خاصة يسمى صندوق "تحيا مصر"، تكون له الشخصية الاعتبارية ويتمتع بالاستقلال المالي والإداري ويتبعه مباشرة ويتصرف فيه كيفما شاء دون أي شكل من أشكال الرقابة عليه.
وإضافة إلى هذا السيل من التشريعات التي لا تصدر عن برلمان شعبي منتخب؛ أقر السيسي الموازنة العامة للدولة، التي من المفترض دستوريا أن تقر في البرلمان، بعجز يصل إلى 510 مليار جنيه بالإضافة إلى 46 مليار وضعت تحت بند "مصروفات أخرى" دون أي تحديد لماهية تلك المصروفات.
ومن ناحية أخرى، أجل السيسي انعقاد البرلمان أكثر من مرة، الأمر الذى أرجعه بعض السياسيون إلى أن السيسي كان يتخوف من إجراء الانتخابات لأنه لم يكن هناك تيار سياسي قوي يتبعه ويؤيد قراراته يمكنه حصد الأغلبية من خلاله إلى أن تم تشكيل قائمة "في حب مصر".
وإذا نظرنا إلى خطابات السيسي فسنجده يستخدم خطابا "دينيا"، حيث قال السيسي للبعض "ربنا بيحبك" وقال لآخرين إنه "سيحاججهم أمام الله جل وعلا يوم القيامة"، فضلا عن أن السيسي وصف نفسه بأنه "طبيب خلقه الله لإنقاذ مصر التي كادت تهوي لولاه"، ودعوته المتكررة للمصريين ألا يسمعوا كلام أحد غيره، وربطه بين حب مصر وسماع المصريين لكلامه "بتحبوا مصر صحيح.. اسمعوا كلامي أنا بس.. اسمعوا كلامي أنا بس"، فضلا عن تحذيراته وتهديداته لمن اعتبر أنهم يريدون إسقاط الدولة بأنه هيشيلهم من على وش الأرض "أنتم مين اسكتوا.. أقسم بالله اللي هيقرب لمصر هشيله من على وش الأرض".
سيطرة الجهات السيادية على الحياة السياسية
"الأجهزة السيادية"، عبارة غامضة لا تحمل تعريفا واضحا لا لكينونتها ولا لدورها ولكنها تُستخدم كناية عن ثلاث أجهزة هي "جهاز المخابرات العامة" و"جهاز المخابرات الحربية" و"جهاز الأمن الوطني" -أمن الدولة سابقا-، ويُفترض أن التعريف النظري لدور هذه الأجهزة هو أنها معنية بجمع وتحليل المعلومات لحماية الوطن وأمنه القومي من محاولات التجسس أو غيره من الأمور التي تمس أمن الوطن وهو ما يعني أنها تقوم بدور فيه من النُبل والشرف ما يجعل المواطنين ممتنين لهم.
ومع تولي عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم وظهور ما عُرف بالتسريبات تأكد وبدليل من ألسنتهم أن كل شيء في الدولة مُقسم على هذه الأجهزة الثلاثة، فكل جهاز يُدير أذرعه وفقًا لمصالحه وما يسعى للحصول عليه ولا يقف الأمر عن الإدارة وحسب بل يمتد إلى الصراع فيما بينهم للحصول على مساحة أكبر.
اللواء عباس كامل، هو النموذج الصارخ والأكثر وضوحا لتدخل الأجهزة السيادية في كل مناحي الحياة السياسية وكل شيء في الدولة، فقد ظهر اسم الرجل لأول مرة في أول تسريب نُشر للسيسي ليُصبح هو بعد ذلك محور كل التسريبات ورغم قلة المعلومات عن الرجل إلا أن التسريبات أظهرت دوره ودور جهازه المحوري في إدارة الدولة داخليا وإقليميا.
ومن أشهر التسريبات التي تؤكد ضلوع هذه الأجهزة في تسيير الحياة السياسية، التسريب الذي تحدث فيه كامل طالبا جزءا من الأموال التي تم تحويلها لحساب حركة "تمرد" التي كانت تجمع توقيعات لإسقاط الرئيس محمد مرسي وتخوفه من تسرب بعض المعلومات الهامة في هذا الصدد، كما يُظهر تسريب آخر سؤال كامل أحد مساعديه بشأن بث حلقة تلفزيونية للإعلامي عبد الرحيم علي تخص المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي ويظهر في الاتصال اسم مدير إدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة اللواء محسن عبد النبي كحلقة وصل مع الإعلاميين.
ولم تتوقف التسريبات الخاصة بالإعلاميين عند هذا الحد بل امتدت إلى ظهور تسريب يُوضح تكليف بعض الإعلاميين بمهمة تحسين صورة السيسي، وذلك قبيل دخوله معركة الانتخابات الرئاسية، وإلى جانب ذلك فإن التسريبات أوضحت أيضا تدخل هذه الأجهزة في عمل القضاء، حيث ظهر تسريب يُفسر كيف تم إخفاء الرئيس محمد مرسي والتلاعب بالأوراق لإحكام القضية، كذلك التسريب الآخر الخاص بقضية "سيارة الترحيلات" والتي قتل فيها "حاجه وتلاتين واحد" على حد قول "عباس كامل" الذي طلب - في هذا التسريب - بضرورة إقناع القاضي للعدول عن موقفه، ولذلك حفاظا على مستقبل الضابط المتهم في هذه القضية.
وامتد تدخل الأجهزة السيادية إلى صلب الحياة السياسية، وهو الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فقد كانت هذه الأجهزة محركة لكل خطوات الانتخابات بداية من تحديد موعدها وتأجيله لأكثر من مرة وصولا إلى اختيار المرشحين وتشكيل القوائم، ومع انعقاد البرلمان نشوب الخلافات بين الأعضاء بدأت الاتهامات تتقاذف فيما بينهم حول تنفيذهم لأوامر جهات سيادية بدون توضيح مسمى هذه الجهات، فعلى سبيل المثال لا الحصر تحدث النائب البرلماني مصطفى بكري عن تدخل جهات سيادية في انتخابات وكيل مجلس النواب وإدارتها لائتلاف "في حب مصر".
وانعقدت اللجنة العليا لـ"حزب الوفد" لمناقشة الأمر ذاته، ولكن الأمر في حقيقته لا يعدو كونه خلافا بين الأجهزة السيادية، فمصطفى بكري يُعد من أحد رجالات مبارك وله من يوجهه، ولهذا السبب اتهم ائتلاف "في حب مصر" الذي يوجهه جهاز الآخر، وقد علق حازم عبد العظيم عضو الحملة الانتخابية للسيسي على خطاب السيسي الذي قاله في البرلمان وتحدث فيه عن ضرورة أن يكون حرا، قائلا: "بحاول أصدق الرئيس والله، لكن عندما يتحدث عن أهمية أن يكون البرلمان حرا، وأنا أعلم وهو يعلم أن جهات سيادية تدخلت في تشكيل قوائم فلن أصدقه"، وهو ما يؤكد أن الجميع خاضع لأوامر سيادية حتى وإن اختلفت مسميات هذه الأجهزة.
عودة رموز مبارك للمشهد من جديد
رغم قيام ثورة يناير على نظام مبارك ورموزه، ورغم إصرار داعمي الانقلاب على التأكيد على أن أحداث 30 حزيران/ يونيو هي امتداد للثورة الأولى وتصحيح مسار لها، إلا أن الواقع جاء بعد تلك الأحداث ليثير الكثير من علامات الاستفهام لدى أي عاقل؛ إذ انتقل نواب "الحزب الوطني" المنحل الذي كان حاكما خلال عهد المخلوع حسني مبارك من حالة الاختفاء التام عن المشهد السياسي بعد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011 والتواري عن الأعين خوفا من الملاحقة أو العزل إلى العودة من جديد والظهور العلني لتأييد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي ودعمه ماديا وإعلاميا، والمشاركة بقوة وبشكل منظم بالمال والعتاد للترويج لدستور 2014 وترشح قائد الجيش السابق عبد الفتاح السيسي لمنصب رئاسة الجمهورية.
ومع ذلك، لم يقف الأمر عند حد الدعم في الانتخابات، ولكن عندما تربع السيسي على عرش مصر واصل استدعاءه لرجال نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، ليعودوا للمشهد السياسي، من خلال تقلدهم مناصب هامة في الدولة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر أبقى السيسي على إبراهيم محلب رئيسا للوزراء رغم كونه أحد رجال مبارك ورغم ما أثير حوله من شبهات مالية قبل توليه منصبه، كما عين محمد فريد التهامي رئيسا لجهاز المخابرات العامة رغم أنه كان قد أعفي من منصبه في عهد "مرسي"، بسبب تورطه في إخفاء معلومات تتعلق بفساد "مبارك".
واستدعى "السيسي" كذلك فاروق العقدة محافظ البنك المركزي في عهد "مبارك" ليجعله مستشارا للبنك المركزي، فيما عين أحمد درويش وزير التنمية الإدارة في عهد مبارك رئيسا للهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية بقناة السويس، وتقلد أحمد زكي بدر وزير التعليم العالي في عهد مبارك منصب وزير التنمية المحلية.
وكان للإعلام – الذي يسيطر عليه بالفعل رجال مبارك – دور كبير في تهيئة الرأي العام لتقبل إقحام رموز مبارك والحزب الوطني في الحياة السياسية بهذا الشكل؛ إذ أكد أن هؤلاء هم الأكفأ في ظل عدم وجود بدائل قوية أخرى تعتمد عليها الدولة في الوقت الحالي، وهو ما ساعد بالفعل على تلاشي حدة غضب الرأي العام من رموز مبارك شيئا فشيئا إعلاء للمصلحة العليا كما أقنعه الإعلام.
وأبى رجال مبارك إلا أن يعودوا بكامل قوتهم على صعيد كافة مؤسسات الدولة كما كانوا قبل ثورة يناير؛ إذ بدأوا يعدون بقوة للانتخابات البرلمانية بعد تبرئة المحاكم لعدد كبير منهم، وبعد أن ألغى القضاء قرارا سابقا بمنع ترشحهم، وبعد إفساح الساحة كذلك أمامهم بالممارسات القمعية ضد الإخوان والإسلاميين وعدد من القوى الليبرالية وبالإصرار على التمسك بتغليب النظام الفردي على الانتخابات.
وفي هذا الصدد، ذكرت صحيفة "الفايننشال تايمز" أن هناك 2000 شخص من أعضاء الحزب الوطني المنحل خاضوا الانتخابات التشريعية بصفتهم مرشحين مستقلين، وأكد تقرير لصحيفة "الأهرام" اليومية المملوكة للدولة أن قرابة نصف المرشحين كانوا أعضاء في حزب مبارك الذي تم حله.
والجدير بالذكر هنا أنه كان من الواضح أن الأحزاب والتحالفات الانتخابية في ذلك الوقت لم تجد أي غضاضة في ضم أعضاء الوطني إليها؛ إذ دعم حزب المصريين الأحرار الليبرالي الذي يقوده قطب الاتصالات نجيب ساويرس ما يقرب من 100 شخص من أعضاء الحزب الوطني من بين 220 مرشحا، هذا بالإضافة إلى سيطرة عدد كبير من رجال الوطني على قائمة "في حب مصر".
ويفسر البعض عودة رجال مبارك للحكم – أو ربما استمرارهم – في عهد السيسي بهذه القوة إلى رغبة السلطة الحالية في استخدام طاقات رجال مبارك لإحداث توازن في الشارع ضد جماعة الإخوان، وفسر البعض الآخر الأمر بأنه ضريبة كان لزاما على السلطة الحالية أن تدفعها لرجال مبارك مقابل دعمهم لها منذ عهد الإخوان، وذهب البعض في تفسير تلك الظاهرة بالارتباط الوثيق بين جنرالات الجيش والمخابرات ورجال مبارك الذين كانوا يتقاسمون أرباح صفقات السلاح، ولعل شركة أسلحة "الأجنحة البيضاء" بفرنسا التي يمتلكها رجل الأعمال محمد أبو العنين ويشارك في أرباحها عدد كبير من قادة الجيش المصري - كان من بينهم وزير الدفاع السابق حسين طنطاوي - خير مثال في هذا الصدد.
قمع المعارضين
ربما لا يتمتع السيسي بشعبية كبيرة، ولكن المرحلة المرتبكة التي مر بها المصريين منذ الإطاحة بمبارك في 2011 حتى الإطاحة بمرسي 2013 هي التي أجبرت بعض المصريين للوقوف بجانب السيسي الذى سيحقق لهم الهدوء النسبي أو كما يقول البعض "نحمد الله أننا لسنا مثل سوريا"، وقد اتخذ السيسي خطوات عده لتحقيق الهدوء النسبي الذى يصبوا إليه بعض المواطنين؛ حيث قام بمنع المنتقدين دون كلل وواجه عدة آلاف من المعارضين العلمانيين والإسلاميين وجعل مثواهم السجون، وأوقف العمل السياسي بالجامعات وقمع بعض المنظمات الأهلية وهدد إعلاميوه بمحاكمة من يسيء لرئيس الدولة، وقال السيسي صراحة "ليس لدينا رفاهية القتال والخصومة" وانعدمت الحرية بشكل كبير ولم يعد هناك باب يتنفس المعارضين من خلاله سوي الخروج في المظاهرات التي دائما وأبدا تواجه بالرصاص الحى من قبل سلطات السيسي.
ولضمان عدم وجود مُتنفس للنشطاء - سواء كانوا إسلاميين أو معارضين لهذا التيار - قبل أي ذكرى يمكن إحيائها تقوم قوات الأمن بإغلاق العديد من المقاهي وأماكن الالتقاء لمنع التجمعات وتلقي القبض على العديد من النشطاء لإخافة الآخرين، فضلا عن حملات التفتيش المستمرة التي تشنها على الشقق السكنية دون أي سند قانوني وكذلك إيقافها المئات من المارة في الشوارع لفحص هواتفهم وحواسبهم الخاصة، وقد عبر عن هذا المشهد الناشط السياسي شادي الغزالي حرب خلال كلمته بالمؤتمر الصحفي للتضامن مع عدد من النشطاء المعتقلين عندما قال "نعيش في دولة ليس بها أي نوع من العدالة أو أي سيادة للقانون".
وعلى صعيد آخر، لم يسلم طلاب الجامعات من حالة الإقصاء والقمع المتواجدة في مصر في عهد السيسي، حيث قال "مؤشر الديمقراطية" الصادر عن المركز التنموي الدولي إن الدولة المصرية أعادت إنتاج سياسات ثبت تاريخيّا فشلها في التعامل مع طلاب الجامعات عبر المواجهات الأمنية والتقييد التشريعي والإقصاء السياسي للطلاب والتشويه الإعلامي للحراك الطلابي والبتر الاجتماعي للطلاب بالسماح بتجسسهم على بعضهم البعض، وتحدث التقرير عن صرف الملايين على التعاقد مع شركات الأمن الخاصة والكمائن المستفزة أمام الجامعات والتي حولتها لما يشبه مناطق عسكرية ومناطق عمليات حربية ووصفته بأنه "لا يعد سوى امتداد لسياسات القمع الأمني التي انتهجتها دولة الحكم في مصر ضد الطلاب بداية من بوليس القصر وحتى نظامي مبارك ومرسي.
ومن ناحية أخرى، لم يكن حال المجتمع المدني أفضل كثيرا فبينما كانت تواجه المنظمات غير الحكومية أثناء عهد مبارك بالتغاضي ففي عهد السيسي، قال محمد زارع من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وأحد العاملين بأحد منظمات المجتمع المدني واصفا حال المجتمع المدني في مصر بأنه "ليس هناك أمل"، حيث نقلت منظمته معظم موظفيها إلى تونس بعد تلقي تهديدات.
بينما رحلت منظمات أخرى مثل "هيومان رايتس ووتش" و"مركز كارتر" حيث مقرهما الرئيسي بأمريكا، أما المنظمات المتبقية فأصبحت ملزمة بالتسجيل في وزارة التضامن الاجتماعي، حيث تكون خاضعة لقانون قديم نادر التطبيق يتيح للحكومة سلطة واسعة على أنشطة المنظمات وتمويلها واستخدمت الحكومة القوانين مبهمة الألفاظ الخاصّة بحظر الاحتجاجات والتنظيمات الإرهابية في مضايقة المنظمات غير الحكومية وفي سجن العاملين بها.
ووصل الحال في مصر إلى اختيار قضاة بعينهم لمحاكمة أشخاص محددين بالرغم من أن معايير العدالة الجنائية الدولية تنص على عدم اختيار قضاة بعينهم لمحاكمة أشخاص محددين إلا أن في مصر بعد الانقلاب أصدر وزير العدل قرارا تم بموجبه تخصيص ست دوائر جديدة لنظر قضايا بعينها هذه الدوائر تخصصت في محاكمة الإخوان المسلمين أو مؤيدي الديمقراطية الوليدة في مصر.
وحذر الكثيرين من الخبراء من استمرار حالة القمع هذه فى مصر ذاكرين بعض السيناريوهات المتوقعة إذا استمر الحال على ما هو عليه، حيث قال مصطفى هاشم في مركز كارنيجي للسلام الدولي إن الحكومة المصرية المؤقّتة إذا استمرّت في قمع التظاهرات والناشطين فقد يتحوّل الشباب المهمّشون نحو وسائل احتجاج أكثر عنفا، ومن ناحية أخرى أكدت وكالة الشرق الأوسط أن مصدرا أمنيا رفيع المستوى حذر من اتساع رقعة الجريمة في مصر بشكل ملحوظ إذا بقي الوضع على ما هو عليه موضحا أن الخريطة الجنائية حاليا تتغير بشكل سريع، وهو ما يتطلب تركيزا أمنيا يصعب تحقيقه في الوضع الحالي.
تصاعد "بلطجة الشرطة"
"الداخلية بلطجية".. واحد من أكثر الهتافات ترديدا في المظاهرات، لم يلجأ إليه المتظاهرين من فراغ، بل إن الفساد الواضح للشرطة وتحديدا بعد انقلاب 3 تموز/ يوليو هو ما أوجد هذا الهتاف، فقد عادت الداخلية بعد الانقلاب أسوأ مما كانت عليه فى عهد المخلوع عادت عازمة العهد أن تنتقم من ثوار 25 يناير الذين شوهوا صورتها على حد قول أحد أبنائها، ومن المعلوم أن كل معارضي الانقلاب يبذلون قصاري جهدهم فى إظهار فساد وبلطجة الداخلية.
ولكن المفارقة الواضحة أن إعلام الانقلاب ذاته أصبح يتحدث وبشكل كبير عن تحول الشرطة المصرية إلى بطلجية وفى هذا الصدد وجه الإعلامي المصري المؤيد للانقلاب، يوسف الحسيني أصابع الاتهام لوزارة الداخلية المصرية متهما إياها بأنها تنتهج فلسفة "كيف تقمع المواطن"، وأن أمناء الشرطة في مصر يمارسون كل أنواع "الإتاوات والبلطجة والتحرش والتعذيب والقتل"، وأشار الحسيني إلى أن مساعي قادة الداخلية بالتغيير خلال الأعوام الماضية باءت كلها بالفشل. ودق الحسيني "ناقوس الخطر" قائلا: "إلى متى ستستمر تجاوزات الشرطة؟ وهل من يتحكمون في السلطة الآن لم يشعروا بجرس الإنذار طوال الأشهر الماضية؟"، مطالبا السيسي بتغيير النهج الذي دأب عليه حكام مصر السابقون، وختم الحسيني حديثه بتحذير السيسي من أن "ممارسات الشرطة هي جزء من غضب الناس"، وهذا سينعكس على صورة السيسي في نظرة المصريين له"، على حد تعبيره.
ومن جانبه، أكد موقع "فيتو" "المؤيد للانقلاب" أن شخصية "حاتم" أمين الشرطة التي جسدها الفنان الراحل خالد صالح في فيلم "هي فوضى" لم تكن ضربا من الخيال، بل أنها تجسد شخصيات بعض أمناء الشرطة الذين مازالوا يستخدمون مواقعهم الشرطية في ممارسة البلطجة على المواطنين من ضرب وسحل وإهانة كرامتهم بدلا من حمايتهم والدفاع عنهم.
وأشارت بعض التقارير إلى اعتماد الأجهزة الأمنية فى عهد السيسي على شبكات البلطجية لأداء مهام عدة، كالاشتباك مع الخصوم السياسيين أو الإرشاد عليهم، وهو دور سابق كانت تقوم به في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ما سهل على الأجهزة الأمنية، وبخاصة جهاز أمن الدولة التابع لوزارة الداخلية، بسط نفوذه وسط تلك التجمعات.
وغيرها الكثير والكثير من أعمال البلطجة التى تقوم بها الشرطة يوما بعد يوم فى وجه المواطنين، بل كشفت تقارير إسهام أفراد من الشرطة تحت عين القيادات، في أنشطة مخالفة للقانون.
الانقسام المجتمعي
في 3 تموز/ يوليو، خرج علينا السيسي ببيان الانقلاب ليؤكد أن الجيش لم يتمكن من السكوت على حالة الانقسام المجتمعي التي لم يتمكن الرئيس مرسي من احتوائها، وأوضح الرجل في نفس البيان أن الجيش تشاور مع عدد من القوى السياسية واتفق الجميع على خارطة مستقبل تتضمن خطوات أولية تحقق بناء مجتمع مصري قوى ومتماسك لا يقصى أحدا من أبنائه وتياراته وينهى حالة الصراع والانقسام به.
ولكن بعدها بقليل خرج علينا صاحب البيان نفسه في يوم 24/7/2013 ليدعو جزء من المجتمع للخروج لتفويضه بذبح الجزء الآخر من خلال خطاب عرف باسم "خطاب التفويض"، وبغض النظر عن أحقية رجل في منصب وزير الدفاع من عدمها في مطالبة الشعب بهذا الأمر دون إعطاء أي اعتبار لباقي مؤسسات الدولة إلا أن التفويض قد تم ولمدى مفتوح والتنفيذ أيضا وبأبشع صوره، ووصل مستوى العنف والقتل والاعتقالات إلى حد لم تشهده البلاد من قبل في تاريخها الحديث، وسرعان ما انقسم المجتمع بشكل فج إلى معسكرين رئيسيين تمثلا في "السيساوية مؤيدي الشرعية" أو "معارضي الانقلاب".
وفي تلك المرحلة لعب الإعلام الممول من مستثمرين معارضين للإخوان دورا خطيرا بتحول دوره من مجرد مشوه ومضلل إلى محرض نزعت من قلبه كل معاني الإنسانية؛ وبات يدعو للقتل بوحشية والاعتقال والبطش بيد من حديد، وجاءت أغنية علي الحجار "إحنا شعب وأنتوا شعب" لترفع من مستوى التحريض أو ربما لتلخص المشهد وتلقي الضوء على واقع مرير لم يعيشه الشعب المصري من قبل، ومع كل هذا التحريض خيم الصمت على تأخر ميثاق الشرف الإعلامي الذي تحدث عنه صاحب البيان الذي قيل أنه جاء بهدف إنهاء الصراع والانقسام المجتمعي.
ومن المعروف أن الدماء كفيلة بتعميق الصراع بين القتلة ومؤيديهم وبين ذوي الضحايا، وهو ما حدث بالفعل في المجتمع المصري؛ إذ باتت نفوس كل طرف تحمل الكثير للطرف الآخر باعتباره أنه القاتل ولم يسكت الإعلام والمسئولين في نظام صاحب بيان تموز/ يوليو عند هذا الحد ليتركوا ما في النفوس في النفوس بل طالبوا مؤيديهم بأن يكون لهم دور في مساعدتهم في القضاء على الطرف الآخر، وذلك من خلال الإبلاغ عنهم أو مراقبة كل من يتم الشك فيه وذهب صاحب بيان الانقلاب إلى أبعد من ذلك وطالبهم بالانتقام منهم، وهو ما جاء في كلمته التي ألقاها أمام قادة القوات المسلحة في شباط/ فبراير 2014 - عقب هجمات مُسلحة في سيناء أدت إلى مقتل عشرات الجنود المصريين- حيث دعا الرجل الشعب المصري للثأر من "الإرهاب"، مؤكدا أنّه لن يُكبّل أيادي المصريين للثأر لشهداء مصر الذين راحوا ضحية الأعمال الإرهابية.
ومن هنا بدأ الانقسام المجتمعي يأخذ منحى آخر لا يقتصر على المعسكرين الرئيسيين السالف ذكرهما بل ضرب المعسكر الواحد؛ إذ فوجئنا بكم بلاغات كاذبة من عدد من المواطنين ضد جيرانهم أو زملائهم في العمل أو حتى أفراد أسرتهم يتهمونهم فيها بأنهم إخوان نكاية فيهم أو رغبة في الانتقام منهم لأي سبب من الأسباب.
ومع ذلك أصر صاحب بيان الانقلاب على التأكيد في أكثر من موضع أن ما قامت به القوات المسلحة في 3 تموز/ يوليو جاء بدافع إنقاذ البلاد من حرب أهلية كانت حتمية في حال استمرار الإخوان في الحكم، والسؤال هنا بعد حجم الانقسام الذي تحدثنا عنه، هل أنقذ السيسي البلادَ من الحرب الأهلية؟