"من أغبى ما يمكن أن تُربِّي عليه الحركات (الإسلامية) أبناءها، أن تربيهم على أن السبب الوحيد لما يتعرضون له من بلاء ومصائب هو أن الله يمتحنهم ويمحصهم، قبل أن يمكّن لهم، لذا فليس عليهم إلا أن يصبروا، ويثبتوا على ما هم عليه، ثم ينتظرون النصر والتمكين، ويدعون الله أن يعجل بهما!!
وينسى هؤلاء - أو يتناسون - أن للبلاء أسبابا وحكما عدة، وأن المعصية والجهل والبدعة، وشوائب النية والانحراف الفكري، وتجاهل السنن الكونية والشرعية، والتصلب في مواطن المرونة، وسوء قراءة الواقع، كل هذا من أسباب البلاء والمصيبة، وأن الواجب أحيانا قد لا يكون الثبات والتصلب - لأن الثبات على هذه الأمور ليس طريقا للتمكين قطعا - بل أحيانا يكون الواجب هو التوقف، ومراجعة النفس، والتراجع خطوات إلى الوراء، والبحث المخلص عن الأخطاء، وتصحيح المسار وفق مراد الله وسنن أنبيائه، وعندها يأتي التمكين والنصر والفرج، الذي لن يأتي أبدا بالثبات على الخطأ، والغباء، والباطل، ثم انتظار معجزات السماء!".
لا أعرف صاحب هذا القول بالضبط، وإن كان شاع على مواقع التواصل في الأيام الفائتة، وأخذ مساحة من التجاذب، والتراشق، وهو وإن كان بجملته صحيحا، إلا أنه ينطوي على مغالطتين كبيرتين:
أولاهما: أنه جاء في سياق السخرية، من مناهج التربية في الحركة الإسلامية، ومنطلقاتها، والإدانة المباشرة للطبقة القائمة على التربية والقيادة، بل والتشكيك بنواياها، واتهامها بشكل مباشر بأنها تقوم بالتدليس على أتباعها وتضليلهم!!
والثانية: أنه أوقع القراء بحالة من التناقض بين الاعتقاد بسنة الابتلاء والمحنة، وبين واجب المراجعة والتصويب، وكأنه ينفي الأولى وينكرها، بينما يثبتُ الخلل والخطأ والتقصير والجهل ويهاجم قادة الدعوات التي ارتكبته، وكأنه ليس شريكا في بعضه، خصوصا أنه يأتي في لحظة حساسة من الحراك الداخلي النشط، في ساحة الحركة الإسلامية الأردنية، في ظل تنامي حالة الاستهداف المتصاعدة للفكرة والتنظيم.
من هنا نقول للوالجين من شماعة الأخطاء، وللمتفيّئين ظلال العبارة المستفزّة: "نحن بأحسن الأحوال": ليس بمثل هذا المسلك يُطبّب المرضُ، ولا يوصف العلاج!!
فنحن في أحسن حالاتنا من وجهة، وفي أسوئها من وجهة أخرى!! لا من جهة التغامز والتنابز الدائرة، وإنما من الجهة الأخرى للفهم، وهي الأجدى به، والأحرى!!
نعم، نحن في أحسن حالاتنا من جهة صنع الله لنا، لا من جهة صنعنا لأنفسنا حتى اللحظة.
فالابتلاءات والمحن، سنن ثابتة في الدعوات، قامت عليها حكمة الشريعة، وعلى أساسا يستبين صحيح الإيمان من مغشوشهِ، في نفوس الزاعمين له، وهي شرط للقبول والتمكين، حتى قال الشافعي - رحمه الله - مستندا لهذا الفهم إنه "لا يُمكَّن للرجل حتى يُبتلى" والتشكيك بصحة هذه السنة، تشكيك بالرسالة ذاتها!!
فكلنا يعلم أن الله يبتلي بالخير، كما يبتلي بالشر: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وقوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}.
فلله في عباده أقدارُ خير، وأقدار شر، وكلها تتحقّق بأفعال العباد، أنفسهم، ووفق حكمة الله من غير ما إكراه ولا إجبار.
فخطأ الرماة في معركة أحدٍ كان قدرا من أقدار الشّر، وكان من فعل الصحابة، وهم خير القرون، وحصد الكبار الأطهار: حمزة ومصعب، عبد الله بن جحش وإخوانهم، لكنه أيضا كان بابا للرضا والمغفرة والتأييد والاصطفاء والتمحيص والنصر!!
وفتنة عثمان، وصِفّين والجمَل، بين علي ومعاوية، وابن الزبير والحسين، كلها كانت أخطاء من أهل زمانها، لكنها كانت مدرسة جامعة للدروس والعبر والعظات، وما زلنا بعد 14 قرنا، لا نعتبر ولا نتعظ!!
إنها هي طبائع الأشياء والنفوس، وتبعات الاجتماع ومتداخلاته النفسية والمجتمعية، والتضارب في المصالح، والاختلاف، والاختلاط بين حظوظ الحق، وحظوظ النفوس، وستفرض هذه المعادلة نفسها، وستظل تكرر مهما بولغ في الاحتياط، ولو نجا منه أحد، لنجا الجيل الأول، ولكن مرجع الأمر كله إلى سرعة الإفاقة، وحسن الاستدراك، بعدم الإيغال والتمادي والعودة من قريب!!
الخير عنوانٌ أصيل في كل مسلك من مسالك المؤمنين - ما كان بريئا من الحظوظ - بنص حديث: (عَجَبا لأَمْرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ ليسَ ذلكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرا لهُ).
الخير هو العنوان الأبرز لما تجري به الأقدار، خيرها وشرها على أهل الإيمان المتجردين! فلا تكثروا علينا الجلد، وضعوا عن كواهلكم أسوطا مشوبة بما يشوب، واجتهدوا وتشمّروا لحمراء الأسد الجديدة تجبرون بها صدع خطئكم في أُحُدٍ المعاصرة، تصنعونها بوحدتكم وتكاثفكم، لمواجهة الاستهداف، والصمود له، بالعبور نحو الأرشد، والأهدى قولا وعملا!!
أؤكد ختاما: أنني لا أقول بالتغاضي عن الأخطاء، ولا بعدم المراجعة والاستدراك، ولكني لا أقول بالتحامل، والاستهداف والإرجاف، وأرفض فقه اقتناص الفرص في غير ميدانها ولحظتها واتجاهها، لتكون داخل الصف، وأُفضِّلها، بل أطالب بالحرص عليها خارجه، في ميدان الدعوة والمدافعة، مع معاملات الفساد والاستبداد في معترك الحياة!!