ما حدث في
لندن قد أحدث رجة في عقل المواطن الغربي عموما والأوربي تحديدا، لكن صداه في العالم العربي والإسلامي بقي محدودا، وربما مر مرور الكرام لدى الأغلبية الواسعة جدا من أبناء هذه المنطقة رغم أن ما حصل يستفزهم بشكل مباشر.
نتحدث هنا عن
صادق خان، هذا المسلم الذي فضله أغلب سكان العاصمة البريطانية على منافسه اليهودي واللندني الأصيل، واختاروه عمدة لهم لأول مرة في تاريخ هذا البلد. حدث ذلك في لحظة فارقة، حيث المسلمون يتعرضون لحملة عنصرية شرسة تجعل منهم خطرا داهما على الحضارة لمجرد ارتباطهم بالإسلام وبمنطقة الشرق الأوسط.
بطبيعة الحال، صادق خان ليس إسلاميا، ولم يتعامل مع مواطنيه من خارج سياقهم الحضاري والسياسي، ولم يكن في خطته أن يشككهم في عقائدهم وفي حضارتهم. على العكس من ذلك كله أظهر نضجا كبيرا ووعيا عميقا بانتمائه إلى مجتمعه الراهن، وهو المجتمع البريطاني، وفهم قوانينه ونواميسه، وحرص على أن يتمثل القيم المشتركة لهذا المجتمع، وأن يدرك ويثبت بأن القيم الإسلامية الكبرى لا تتعارض مع الديمقراطية وقيم المواطنة، وهو ما أقنع الناخب اللندني، وجعله يثق فيه وينحاز إليه.
ما الذي يعنيه هذا الفوز بالنسبة لنا نحن الذين نراقب المشهد من بعيد؟
أولا: المجتمعات الغربية ليست حصونا مغلقة تماما في وجه الغرباء وفي مقدمتهم المسلمون، بل على عكس ما يروج له البعض هذه مجتمعات مفتوحة، وفرت ولا تزال للكثيرين ممن هاجروا إليها فرص النجاح والاستقرار بها، والإبداع من داخل هياكلها ومؤسساتها.
فالمجتمعات المغلقة والمنطوية على نفسها تكاد تندثر أو على الأقل أصبحت محدودة مثل الصين وبلدان أخرى قليلة.
لقد أصبحت المدن الغربية الكبرى مدنا قائمة على التنوع العرقي والثقافي، وذلك نتيجة العولمة التي لم تعد تسمح لأي كان -باستثناء حالات شاذة- بغلق الأسوار والأبواب والأضواء وطرد الغرباء من مناطق نفوذه.
لقد تمت إعادة صياغة المجتمعات الغربية بالخصوص، وفرضت عليها صهر الأقليات التي تشكلت في داخلها، التي رغم تعدد مشاكلها، إلا أن القبول بها أصبح اختيارا أو بحكم الضرورات الاقتصادية جزءا لا يتجزأ من منظومات جديدة قائمة على حد أدنى من العقلانية والربح والحقوق ونمط جديد من موازين القوى.
ثانيا: بفضل هذه التحولات الجذرية التي حدثت داخل المجتمعات الغربية، أصبح بالإمكان أن يكون للمسلم دور ما، بما في ذلك الترشح لمواقع المسؤولية السياسية والمجتمعية. المهم أن يثبت أنه قادر على تغيير الأوضاع نحو الأفضل، وأنه فهم قواعد اللعبة، وأثبت جدارته بكونه أهل لكي يقود أحد المدن الغربية بكل تعقيداتها ومشكلاتها.
وبما أن الأمر أصبح ممكنا أن يتجسد على أرض الواقع بعد أن كان ذلك من ضرب الخيال، فإن ما حصل من شأنه أن يدفع بقية المواطنين الغربيين من أصول إسلامية إلى مراجعة آليات التفكير، فيطلقون العنان لأفكارهم وطموحاتهم وقدراتهم المختلفة حتى يتمكنوا من الوصول إلى مواقع مؤثرة في المجتمع والدولة، وهو المنهج الوحيد الذي يمكنه أن يخرجهم نهائيا من حالة التهميش، ويجعل منهم قوة فاعلة ليس فقط داخل المجتمع الذي يعيشون فيه، وإنما أيضا مؤثرين على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ثالثا: حدثني مرة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أن عملية 11 سبتمر قد انتكست بالجالية المسلمة في الولايات المتحدة الأمريكية، وعادت بهم على الأقل عشرين عاما للخلف، وذلك بعد أن حققوا خطوات هامة.
وما بدأه تنظيم القاعدة يواصل اليوم تنظيم داعش وما شابهه استكماله عن طريق حرب مخسورة حتما، لأن اللجوء إلى الإرهاب من شأنه أن يقوي الماسكين بالصناعات الحربية ولا تضعفهم، كما تعطي الفرصة وراء الأخرى للقوى المعادية لمصالح العرب والمسلمين ليزيدوا من إحكام قبضتهم على مختلف مفاصل الأمة.
بطبيعة الحال، هذه الجماعات التي قررت الانتحار الجماعي، لا تعطي أي أهمية لحدث نوعي مثل أن يصبح مسلم عمدة للندن، ولا شك في أنهم سيتهمون صادق خان بكونه متغربا وفاقدا للأهلية والشرعية، بحجة أنه يخدم مصالح
بريطانيا والغرب.
فمنهج التفكير والتحليل عندهم لا يسمح باكتشاف أبعاد الإنجاز الرمزي الذي حصل، لأن هؤلاء لا يؤمنون بأن الجاليات المسلمة في الغرب، مهمتها أن تتمكن من الاندماج في مجتمعات لها تاريخها ودولها وثقافاتها، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال تهديد أمنها واستقرارها، أو السعي نحو تغيير شرائعها وطرق إدارة شؤونها والعمل على إخضاعها للإسلام عنوة وقهرا.
هم يطالبون هذه الجاليات بأن تتحول إلى قنابل موقوتة تقوم بالتخريب وتشيع ثقافة الموت والخراب، خلافا لصادق خان الذي تبنى المنهج المغاير، والقائم على كونه مواطن بريطاني من ديانة مسلمة، واقتنع بأن دوره الأساس في هذا المجتمع هو أن يلتزم بمؤسساته، وأن يحترم قوانينه، وأن ينخرط في أحزابه، ويجتهد لفهم مشكلاته ودراسة حاجياته، ثم يتقدم إلى بقية جيرانه ومواطنيه ليعرض عليهم خدماته، ويطلب منهم منح ثقتهم فيه.
شتان بين منهجين في تغيير الأوضاع، منهج يقوم على تصدير القتل والموت والخراب باسم الدين، وبين منهج آخر يعتمد السلمية والعقلانية والشخصية البناءة والكلمة الطيبة وغرس الثقة وإدارة الصراع من داخل المجتمع وليس من خارجه أو بتهديده. إنه طريق طويل ولكن نتائجه مضمونة ولو بعد حين.