حزب العدالة والتنمية يحكم
تركيا منذ فوزه في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، أي بعد حوالي خمسة عشر شهرا من تأسيسه، ومر منذ ذلك اليوم بأزمات ومراحل عصيبة، مثل الدعوى القضائية التي رفعت لدى المحكمة الدستورية لحظره، غير أنه نجح في تجاوز كل تلك الأزمات بسلام ليصل إلى صيف 2016 وهو لا يزال يتمتع بتأييد أكثر من نصف الشعب التركي.
هذا الحزب الذي حقق نجاحا كبيرا لم يسبق له مثيل في السياسة التركية تعرض أيضا منذ تأسيسه حتى اليوم، أي خلال خمسة عشر عاما، لمؤامرات تهدف إلى إثارة فتنة داخلية لشق صفوفه وتقسيمه إلى حزبين أو أكثر. وكانت من أبرز تلك المؤامرات محاولة الإيقاع بين رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان وسلفه ورفيق دربه عبد الله غول، إلا أنها لم تنجح بسبب الوعي الذي يتمتع به الزعيمان، ولم يسمح أردوغان وغول للمتربصين بتحويِل اختلاف آرائهما في بعض القضايا إلى صراع داخلي في حزب العدالة والتنمية.
هذه الأيام يتعرض حزب العدالة والتنمية لمحاولة مماثلة تهدف هذه المرة إلى إثارة الفتنة بين أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، بعد أن فشلت جميع الخطط في إسقاط أردوغان وحصل حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة على أصوات نصف الناخبين.
أصحاب المحاولة الجديدة يقولون لأحد الطرفين إن رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان يقيِّد حرية رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو ويقلص صلاحياته لتعزيز نفوذه في الحزب والسلطة، فيما يقولون للطرف الآخر إن داود أوغلو يسعى للإطاحة بأردوغان وتجاوزه ليسجنه عمليا في القصر الجمهوري.
النقاش حول الخلاف بين أردوغان وداود أوغلو احتدم في الأيام الأخيرة بعد اتخاذ الحزب قرارا لسحب صلاحية تعيين مسؤولي الحزب في المحافظات والأقضية من رئيس الحزب وإعطائها إلى اللجنة المركزية لاتخاذ القرار والإدارة التي كانت لديها هذه الصلاحية في البداية، ما يعني أنها استعادتها. وقال الناطق باسم حزب العدالة والتنمية، عمر تشليك، إنها خطوة فنية، نافيا وجود أي أزمة في الحزب، ولكن توقيت هذه الخطوة فتح المجال للتكهنات.
بعد هذه الخطوة، نشر في الإنترنت بيان أطلق عليه "ملف البجعة" دون ذكر اسم كاتبه، ليستهدف رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو والمقربين منه، ويتهمهم بالسعي لتصفية أردوغان. وهذا البيان المجهول زاد الطين بلة، وصب الزيت على النار، ودخلت قوى المعارضة وجماعة كولن على الخط لتأجيج النقاش، ونشرت صحف ومواقع معروفة بعدائها لحزب العدالة والتنمية تقارير تزعم أن السيوف سلت للسيطرة على الحزب.
مكانة أردوغان في حزب العدالة والتنمية وقلوب مؤيديه معروفة، وهو مؤسس الحركة السياسية التي يمثلها حزب العدالة والتنمية، وليس بحاجة إلى استهداف داود أوغلو ببيان كتبه مجهول لا يتجرأ على إعلان هويته. وإن كانت هناك مسائل يحب أن يناقشها مع داود أوغلو فبإمكانه أن يدعوه إلى القصر الجمهوري أو يستقبله في مكان آخر، كما أنه يدرك جيدا من خلال تجربته السياسية العميقة أن مثل هذه الأساليب تضره بدلا من أن تنفعه. أما داود أوغلو، فيبذل قصارى جهده لنجاح حزب العدالة والتنمية منذ أن تولى رئاسة الحزب خلفا لأردوغان، ويعمل في تناغم كبير مع رئيس الجمهورية.
ومن الطبيعي أن تختلف الآراء ووجهات النظر، إلا أن حزب العدالة والتنمية نجح حتى الآن في احتواء الخلافات دون أن تتحول إلى صراع داخلي. ويستبعد أن تصل هذه المحاولة الأخيرة إلى مبتغاها، في ظل إدراك أردوغان وداود أوغلو وقادة حزب العدالة والتنمية ومحبيه لخطر ما يحاك حول الحزب من مؤامرات من خلال إثارة النفوس وزرع بذور الفتنة.
هذه المحاولة تهدف أيضا إلى تصوير أردوغان الذي يقهرهم نجاحه وفشلوا في إسقاطه سواء عن طريق الانتخابات أو الانقلاب عليه، كزعيم متسلط يحب التفرد بالسلطة وتتزايد ميوله الدكتاتورية يوما بعد يوم، كما أنهم يرون أن أي صراع محتمل بين أردوغان وداود أوغلو من شأنه أن يضعف الاثنين وأن داود أوغلو خصم سياسي يسهل التغلب عليه، ما يفسر اصطفافهم لتشجيع هذا الأخير على التمرد ضد أردوغان.