بغداد ودمشق والقاهرة ثلاث عواصم لثلاث نقاط ارتكاز مفصلية في المنطقة العربية ولا نبالغ إن قلنا في المنطقة الإسلامية كلها بعد إضافة الجزائر وكابول على أجنحة هذا المحور وصنعاء وإسطنبول على المحور العمودي، إلا أن محور بغداد دمشق القاهرة هو العصب الرئيس الذي لا يمكن أن تستعيد الأمة ذاتها إلا به.
وحلب الشهباء الأخت الصغرى لدمشق هي أكبر مدن الشام وأكثرها سكانا وواحدة من أقدم المدن في العالم، وهي عاصمة الشمال السوري، عندما نذكر حلب وما حدث في الأيام السابقة يضغط على أذهاننا سؤال؛ لماذا تقصف حلب ولم كل هذا العنف الذي لا يمكن تفهم أسبابه. فكأن القتل أصبح متعة وكأن مقاومة الشعوب للاحتلال والاستبداد- وهما وجهان متشابهان – لابد أن تواجه بكل هذا الكره والعقاب الجماعي؟ نحن نرى منذ خمس سنوات
سوريا تقصف ومنذ عشرين عاما أو يزيد بغداد تقصف وفي كل مرة نعيد السؤال: لماذا تقصف بغداد أو حلب أو إدلب أو غيرها من المدن التي تحمل من التاريخ والحضارة ما نعجز عن سرده؟ إجابات عدة سواء انطلقت من صراع الحضارات أم من أفكار أخرى عن وجود فراغ استراتيجي لا بد من أن يملأه أحد أو العداء العالمي للإسلام والمؤامرة عليه.
الكل يتحرك من مقدماته الفكرية والأيديولوجية وبالتأكيد الحقيقة ستحمل جزءا من كل سبب وسنبقى مختلفين دائما على الأوزان النسبية لكل عنصر من عناصر الإجابة. إلا أننا في النهاية سنجيب على سؤال متكرر بإجابات مكررة؛ لماذا تُحرق مدننا فوق رؤوسنا؟. منذ حرق بغداد في 2003 ونحن نسأل نفس السؤال، ومع تكرار السؤال وتكرار الإجابة فقد السؤال معناه وتجاوزنا ترف ترديد هذا السؤال لنذهب فورا إلى إجابات لأسئلة أخرى لم يطرحها علينا أحد وحاولنا كثيرا طردها من أذهاننا لأن تكلفتها ربما تجعل من واجبنا أن نحرق أشياءا أخرى غير مدننا التي أصبحت أطلالا.
يبدو أننا لسنا في حاجة إلى اتخاذ هذا القرار فالدخان المنبعث من الأرض المحروقة كان أكثر وضوحا من رؤانا التي تحاصرنا وأسئلتنا التي نهرب منها، لقد هدمت تلك الحرائق حوائط عدة في أذهاننا مع حوائط بيوت حلب وقبلها حوائط بغداد وأصبحت الإجابات أكثر وضوحا وحدة من محاولات الهروب منها.
لقد احترقت صفحات الخداع التي مارسته علينا أنظمتنا وأصبح الآن من يدعي أنها دول وطنية فاقدا للأهلية السياسية والعقلية أو أنه لم يشتم رائحة احتراق بغداد والشام بعد أو أصبح جزءا منها بوعي أو بدون وعي ولا يرى غيرها، احترقت صفحات الجيوش وتأكدنا من مقولة الشهيد سيد قطب عندما أكد منذ أكثر من 60 عاما أن تلك الجيوش لن تطلق رصاصة واحدة إلا على شعوبها وقد كان حقا مطلقا. احترقت صفحات النخب العفنة التي اغتربت عن مجتمعها وأصبحت تقتلنا يدا بيد مع سلطات الاحتلال التي تحكمنا؛ تفرح لحرقنا وحرق مدننا وتحزن لانتصاراتنا.
احترقت بغداد واحترقت الشام ولأول مرة في التاريخ تكون القاهرة المخطوفة مشاركة في حريق بغداد عندما ساهم "جيش المرتزقة" في تدمير العراق؛ ولأول مرة في التاريخ تساند القاهرة المخطوفة حرق الشام؛ ولكنها أول مرة أيضا تكون القاهرة مخطوفة من عملاء خونة أقرب للصهاينة وأعداء للأمة والمجتمع.
عندما خُطِفت القاهرة ظن بعض أهلها أنها ستنجو من الحريق ولكن الجغرافيا والتاريخ يخبروننا جميعا أنها لم ولن تنجو كما يحاول البعض تصوير المشهد؛ فعندما تتخلى القاهرة عن بغداد والشام وتتركهما يحترقان فبدون شك ستصل النار إليها مهما طال الأمد. لقد كان هناك أمل قبل السطو المسلح في يوليو 2013 أن تستطيع القاهرة إنقاذ هذا المحور الامبراطوري ولكن استبق الخونة بما يعلمه الجميع.
لقد أنقذت بغداد مصر والشام عندما كانت بغداد حاضرة الدنيا ؛ وتبدلت الأحوال وأوقفت مصر التتار بعد اجتياح بغداد والشام، كانت الثلاث عواصم تتنادى عندما تتعرض إحداها للخطر وكانت العاصمة الباقية تقف حتى لو وحدها دفاعا عن الباقين.
نجح الأعداء في قراءة الجغرافيا والتاريخ معا؛ وكما قال الدكتور جمال حمدان في استراتيجية الاستعمار والتحرير "إن التاريخ إذا كرر نفسه فهذا التكرار هو الجغرافيا" أدرك الأعداء ذلك؛ فلن تنكسر الأمة إلا بتحطيم القاهرة وبغداد ودمشق؛ وقعت الثلاثة مدن الآن تحت سيطرة الأعداء بأشكالهم المتعددة، وانتفضت العواصم الثلاث للدفاع عن وجودها كلٌ بما يستطيع.
إن مصير تلك العواصم الثلاث مرتبط سواءا نسينا أو تناسينا؛ فهو مرتبط بالتاريخ و بالجغرافيا و بالهوية؛ وعلى الجميع إدراك أن دخان حريق بغداد استغرق عشر سنوات ليصل إلى الشام ودخان حريق الشام لن يجد له طريق إلا إلى القاهرة.