لا أعرف إن كان اختياره يوم (18 أبريل) لقدومه للقاهرة مصادفة، أم أمرا مرتبا مع سبق الإصرار والترصد؟!
فالرئيس "فرانسوا أولاند" جاء للمحروسة على قاعدة من "سبق أكل النبق"، ونعلم أن القادة الغربيين كلما وجدوا مساعدات قدمت لمصر، تباروا في الحصول على الجزء الأكبر منها في صفقات، انتقلت بالرئيس الفرنسي بالذات، لأن يكون في علاقته مع القاهرة ليس أكثر من تاجر سلاح، أو سمسار للدقة!
في اللحظة التي حطت طائرته في مطار القاهرة الجوي، كانت محافظة أسيوط تحتفل بعيدها القومي، ويقوم محافظها بزيارة مقابر الشهداء في قرية بني عدي، بمركز منفلوط؛ ففي يوم (18 أبريل) 1799، كانت الحملة الفرنسية التي وصلت للمحافظة قبل يومين، تحاول اقتحام القرية، لكن الأهالي تحت قيادة الشيخ "حسن الخطيب" واجهوا الغزاة ببسالة، فلما فشلت قوات الاحتلال الفرنسي في مهمتها بالاقتحام والسيطرة، أضرمت النار في البيوت، حتى حولتها لقطعة من اللهب، وقامت بعد ذلك بالإغارة عليها، للقيام بمهمة السلب والنهب.
وشهر أبريل بشكل عام، له ذكريات في الوجدان الفرنسي، ففي يوم (10 أبريل) منيت الحملة الفرنسية بهزيمة وهي تحاول اقتحام قرية "جهينة"، اضطرت على أثرها للرحيل تجر خلفها أذيال الخزي، ومن ثم فقد اعتمدت محافظة سوهاج، هذا اليوم عيدها القومي. ولم تكن ذكريات الحملة الفرنسية مع شهر أبريل مؤلمة دائما، ففي (21 أبريل) نجح قائد الحملة كليبر، (بعد أن ترك له نابليون بونابرت مهمة القيادة) في إلحاق الهزيمة بثورة القاهرة الثانية، واستسلم له الثائرون!
الوجه الفرنسي الاستعماري تحول إلى ذكرى في أذهان
المصريين، فالحملة لم تستمر إلا ثلاث سنوات، اختزنت الذاكرة المصرية، دخول نابليون بالخيل الأزهر، وجرائمها وهي تحاول إخضاع البلاد لها بالقوة، وتنكل بالثوار، لكن الفتى السوري سليمان الحلبي، الطالب في الأزهر الشريف، رد لهم الاعتبار عندما اغتال القائد الفرنسي كليبر، كما ردت المقاومة المصرية لهذه الحملة لاسيما في قرى الصعيد لهم الاعتبار أيضا، فلم يتمكن الغزاة الفرنسيون من بسط نفوذهم على كامل الأراضي المصرية. كما ساعد انتهاء الحملة إلى ذكرى، أن فرنسا بعد رحيل حملتها حرصت على أن تقدم وجها حضاريا، سعى للترويج له من سافروا في البعثات التعليمية إلى باريس؛ ومن رفاعة الطهطاوي إلى طه حسين!
هذا فضلا عن أنه في القسمة الجديدة، بعد الجلاء الشكلي للاستعمار، فإن مصر صارت جزءا من النفوذ الأمريكي، و ظل الدور الاستعماري لفرنسا بارزا في دول المغرب العربي، ويشعر بنفوذه القوم هناك، ومن خلال مساعدة الفرنسيين لأنظمة الاستبداد في هذه البلدان، ووقوفها في وجه الربيع العربي بهدف إفشاله، فلا يصبح من حق المواطن العربي في هذه الدول ما يتاح للإنسان الغربي، من حقه في اختيار حكامه ومحاسبتهم، وحقه في وقف التبعية والعمل على النهوض بوطنه، ودفعت فرنسا بنخبة فاشلة في تونس تدين لها بالولاء، للوقوف في وجه المد الثوري بحجة الدفاع عن قيم الحداثة، كما دفعت بها لشغل الناس بتوافه الأمور، فلا يصبح هناك وقت للحديث في القضايا الكبرى للأمة، وقد أفشلت هذه النخبة الممولة فرنسيا، السلطة المنتخبة انتخابا حقيقيا، حتى أصبحت إرادة الجماهير ليست كافية لتمكين الحزب الأقوى من الحكم، فصار من الفطنة أن يتأخر خطوة للخلف لصالح ذيول الاستعمار الفرنسي.
ففرنسا استوعبت الربيع العربي في تونس وليبيا، ثم تدخلت بكل ثقلها من أجل إفشاله، وتبنت في كل بلد من البلدين خيارا يتماشى مع طبيعته، لكنه في النهاية يخدم أهداف المستعمر القديم، فعندما يصبح المواطن العربي هو سيد قراره في وطنه، عندئذ يكون الاستعمار قد انتهى فعلا، لأنه وإن كان قد غادر المستعمرات القديمة، فقد اختار لها من يحكمها ليحقق أهداف الاستعمار نفسها، وهي التبعية والإفقار، فيتدخل "الغرب الطيب" ببعض المساعدات للشعوب الجوعى، أو يفتح أبوابه لاستقبال اللاجئين، كما في الحالة السورية، وهم من ضحاياهم في الأصل، أو يكسر نفوس المصريين، بتمكين الانقلاب العسكري من أن يلغي بجرة بيادة خمسة استحقاقات انتخابية، قرر فيها الشعب بإراداته الكاملة مصيره، لكن الرسالة الغربية كانت هي: نحن من نقرر لكم المصير، فلستم أكثر من مستعمرات قديمة، لم تحصل إلا على الوهم بالاستقلال!.
والحال كذلك، فقد اعتبرت فرنسا، أنه ينبغي أن يكون لها نصيب في المستعمرة المصرية القديمة، بحكم التاريخ، فكانت صفقات الأسلحة والطائرات، ليزداد المصريون فقرا، ويحل الفرنسيون أزماتهم الاقتصادية على حسابنا، وهي صفقات على أهميتها، تمثل سفها ينبغي الحجر على طرفه المصري، فشعب تكمل غالبيته عشاءها نوما، لا يجوز استمرار تجويعه تحت لافتة تسليح جيشه، الذي ليس مقدرا له أن يخوض حربا بالمعنى المعروف للحروب، وقد جرى سحبه من الحدود والدفع به للشارع ليقوم بدور الأمن المركزي، وهل تحتاج قوات الأمن في مواجهتها مع الشعب بل ومع الإرهاب إلى أسلحة حديثة وإلى حاملات الطائرات، وإلى صفقة طائرات رفال، وهي صفقات قد يكون الحصول عليها مناسبا، في حال النهوض الاقتصادي أو الشبع.
لقد وجد الرئيس الفرنسي في "عبد الفتاح السيسي" ضالته، فالأخير يبحث عن شرعية هو يعلم أن الشعب المصري ضن عليه بها، ويعلم أنه جاء للحكم بانقلاب عسكري، لا يغير من طبيعته انتخابات صورية، ولهذا فكما سعى للحصول على الشرعية من إسرائيل المدخل الطبيعي للبيت الأبيض بتدمير سيناء، كان ثمن الاعتراف الإفريقي به، التوقيع على بناء سد النهضة، والتنازل طواعية عن حصة مصر التاريخية من نهر النيل، وللحصول على التأييد الفرنسي كانت صفقاته مع الرئيس "فرانسوا أولاند"، الذي تقدم بالحضور الفرنسي خطوة للأمام بدعوة عدد من المثقفين المصريين لأن يلتقوا به!.
الدعاية أعطت إشارة كما لو أن المعتمد البريطاني، الذي كان بيده "عقدة النكاح" في زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر، هو من وجه الدعوة، والدعاية المكثفة لها أوحت كما لو كان "أولاند" قد دعا عشرات المثقفين وليس ستة أشخاص لا أكثر "هالة السعيد" عميد كلية الاقتصاد، وهي شخصية لا دور لها ولا حضور على أي مستوى رسمي أو شعبي. وزياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء السابق في أول حكومة للانقلاب، وهو بينه وبين السلطة خلاف في وجهات النظر لا أكثر. و"محمد أنور السادات" وهو مؤيد للسيسي، ورجل يلبي أي دعوة، وكان يخرج من عند الرئيس محمد مرسي ليحضر اجتماعات جبهة الإنقاذ التي تعمل على إسقاط الرئيس. و"عبد الله السناوي"، وهو المنحاز بالفطرة للانقلاب العسكري كونه ناصريا ومن تلاميذ هيكل!
وبقي اثنان حضرا اللقاء حاولا الإيحاء بأنهما انتصرا بحضورهما للثورة المصرية ولحقوق الإنسان، الأولى هي جميلة إسماعيل التي انتهت تماما بتأييدها للانقلاب العسكري، ولم تجرؤ على معارضته، ووجدت أن دورها السياسي قد انتهى فذهبت لتبحث عن وظيفة تركتها في (2005)، فقد تذكرت الآن أنها مذيعة في التلفزيون المصري، فأعلنت قبل أيام أنها تقدمت بطلب للعودة، صحيح أنها قالت كلاما حماسيا في حضرة "أولاند"، لكن فاتها أن الفتى سمسار لا تهمه سوى العمولة!
الأخير كان هو "خالد علي" المرشح الرئاسي السابق، الذي حدد في اللقاء موقعه بالتحديد من الدعوة للثورة، فلم يكتف بالعمل على فضها وهي التي كانت تهتف بسقوط حكم العسكر في (14 أبريل) الجاري، إنما ذهب ليتحدث في حضرة الرئيس الفرنسي، بصفته حقوقيا يتحدث عن حقوق الإنسان، وقد حرص أن يسبق اسم السيسي بلقب الرئيس، ولا نعرف سر حضوره إذن في مظاهرات هتفت بسقوط النظام ؟!
هؤلاء الباحثون عن الوجاهة الاجتماعية بتلبية الدعوة ليسوا هم الموضوع، فلا نعرف المبرر الذي دفع "أولاند" لتوجيهها، مع صمت من النظام الانقلابي وإعلامه، فلم يتهم من حضروا بالعمالة والخيانة الوطنية، وهو الاتهام الذي يوجه لكل من يحضر لقاء مع أحد القادة الغربيين، من المعارضين الجادين للنظام منذ عهد مبارك؟!
هل أراد الرئيس الفرنسي أن يغسل سمعته بهذا اللقاء وبأنه ليس مجرد سمسار وتاجر سلاح، يبحث في الأولى عن العمولة وفي الثانية عن هامش الربح في صفقاته؟ وإنما رئيس لدولة القيم والأخلاق الحميدة؟ وهو يبحث له عن موضع قدم في مصر الجديدة، عندما يسقط حكم حلفائه العسكر، وإذا كانت حملة نابليون وتابعه كليبر قد فشلت، فها هو جاء بحملة مختلفة نشاطها التجارة والسيطرة والحديث الناعم مع ستة من النخبة المصرية.
إنها حملة أعادت تذكيرنا بالوجه الاستعماري لفرنسا، فالمجد لشهداء بني عدي في يوم قدوم "أولاند" للقاهرة.
كاتب وصحفي مصري
[email protected]