كتب الصحافي البريطاني المعروف ومراسل صحيفة "إندبندنت" روبرت فيسك تقريرا، قال فيه إن طالب الدكتوراه الإيطالي جوليو
ريجيني قتل ودفع ثمن محاولته التحقيق في "
مصر السيسي"، مشيرا إلى أن طالب جامعة كامبردج فهم أن اتحادات العمال تهديد مباشر على
الديكتاتورية.
ويضيف الكاتب قائلا: "اعتدنا جميعا على السرد الذي يتحدث عن (الإرهاب الإسلامي)، الذي يتحدث عنه الديكتاتوريون المفضلون لنا، وأنا أتحدث هنا عن عبد الناصر والسادات ومبارك، والآن وبالطبع المارشال الرئيس عبد الفتاح السيسي، ونحن وقعنا في خطر تصديقهم، وقد سمحت حملة الإرهاب التي يقوم بها الإخوان المسلمون (في الحقيقة لا علاقة لهم بالعنف في مصر) للسيسي بضرب وسجن وتعذيب وقتل وإعدام آلاف الأشخاص الذين اعترضوا على تصرفات دولته البوليسية المشينة".
ويستدرك فيسك قائلا: "لكن الخطر الحقيقي على نظامه، وبالتأكيد على الحكومات المصرية في ظل الحكم البريطاني، وعلى السادات، وحتى مبارك، ظل نابعا من المعارضة العلمانية والاشتراكية، التي ظهرت من خلال حركات اتحاد العمال المستقلة والشجاعة".
ويناقش الكاتب أن العلمانية والاشتراكية وليس "الإرهاب الإسلامي" ظلتا دائما العدو للديكتاتوريين المصريين، حيث كتب قبل أسابيع قليلة طالب دكتوراه شاب قائلا إن تحدي "اتحادات العمال المصرية لحالة الطوارئ ولدعوات النظام حول الاستقرار والنظام الاجتماعي، التي بررها النظام من خلال (الحرب على الإرهاب)، تعبر عن مساءلة صريحة وشجاعة للخطاب الذي يستخدمه النظام كي يبرر وجوده وقمعه للمجتمع المدني".
ويشير التقرير إلى أن طالب الدكتوراه من جامعة كامبردج، الذي كتب هذه العبارات، هو جوليو ريجيني، الذي عثر على جثته المشوهة وآثار التعذيب عليها، لدرجة لم تستطع والدته التعرف عليه إلا من خلال أنفه، حيث كانت جثته ملقاة على الطريق السريع بين القاهرة والإسكندرية في شباط/ فبراير، وتعرض على مدار تسعة أيام للضرب والتعذيب والصعق بالكهرباء والطعن، وعانى من نزيف حاد في الدماغ.
وتذكر الصحيفة أن شرطة السيسي أعلنت عن وفاة ريجيني بسبب حادث سير، أو أنه اختطف وقتل على يد "عصابة مجرمين"، وقالت إنه مات نتيجة جدال مع عشيقة له، مشيرة إلى أنه في الوقت الذي انفجر فيه الغضب في إيطاليا على وفاة ريجيني، فإن وزارة الخارجية البريطانية لم تطالب بالتحقيق بوفاة الطالب إلا بعد تلقيها عشرة آلاف توقيع من داخل بريطانيا، حيث تعتقد الخارجية أن العصابة الإجرامية هي من شرطة الدولة التابعة للسيسي.
ويشير فيسك إلى المبررات التي قدمتها الحكومة المصرية، مثل ما ورد على لسان السيسي نفسه، الذي تحدث عن "مؤامرة" من "أهل الشر" والصحافيين الذين يصدقون ما ورد في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تقف على النقيض من الصحف ومحطات التلفزة الموالية للحكومة، والتي تواصل التودد للمارشال بعد الانقلاب الذي نفذه ضد حكومة الإخوان المسلمين المنتخبة.
ويقول الكاتب إنه يجب الانتباه للمؤسسات التي كان ريجيني يقوم بالتحقيق في عملها وهو في القاهرة، أي الاتحادات العمالية المستقلة التي تمثل على المدى البعيد عدوا خطيرا للسيسي، وهو التحقيق الذي ربما كان سببا بمقتل ريجيني.
ويلفت التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أن عمال الصناعة في مصر احتجوا على ظروفهم المريعة والأجور المتدنية في ظل الحكم البريطاني، حيث أعلن عمال صناعة التبغ والطباعة والسكك الحديدية والترام إضرابهم، وأغلقوا بشكل متكرر مصانع القطن في حقبة العشرينيات من القرن الماضي.
وتبين الصحيفة أن الإضراب أصبح تقليدا وطنيا معروفا، حيث كان واحدا من قرارات عبد الناصر الأولى قبل أن ينشئ الاتحادات الرسمية هو إعدام اثنين من قادة الإضراب: مصطفى خميس وعبدالرحمن البقري من مصنع نسيج كفر الدوار، وفي عهد مبارك قتلت شرطته عمال الفولاذ في عام 1989.
ويقول فيسك إن مصدر الخوف الحقيقي على نظام مبارك، والسبب الرئيسي الذي قاد للإطاحة به جاء من عمال القطن والنسيج في المحلة، وهي المدينة القاتمة الواقعة شمال القاهرة على دلتا النيل.
ويضيف الكاتب قائلا إن زميلا فرنسيا أشار إلى أهمية المحلة، التي تقدم مصانعها ملايين الدولارات من الصادرات لمصر، مشيرا إلى أن عمال المحلة قاموا بمحاولة انقلابية ضد مبارك عام 2006، أي قبل خمسة أيام من ثورة ميدان التحرير.
ويفيد التقرير بأن عمال القطن قاموا بقيادة النساء باحتلال مركز المحلة "المعروف أيضا بميدان التحرير" لمدة أسبوع، وطالبوا الفلاحين المصريين بدعمهم عبر الهواتف النقالة ومواقع التواصل الاجتماعي، وأفرج عن قادة الاتحادات العمالية، وحصلوا على زيادة في المرتبات، لكنهم لم يدمروا مبارك، وعندما حاولوا مرة ثانية عام 2008 تم سحقهم بوحشية.
وتستدرك الصحيفة بأن العمال تعلموا من الدرس، وكان أول من انضم للمحتشدين في ميدان التحرير عام 2011 هم عمال القطن من المحلة، حيث كان هذا هو السبب الذي دفع بمبارك لوقف رحلات القطار بين العاصمة ودلتا النيل كلها.
ويقول فيسك: "عندما زرت المحلة بعد ثورة عام 2011، كان العمال راضين عن إنجازهم، وشعروا بالأمن، ولا أحد يمكنه اتهامهم بأنهم أتباع الإخوان، فقد كان الأمر مختلفا عندما تستخدم الجيش وتطلق النار على الإخوان المسلمين، وعندما تطلق النار على العمال".
وينوه الكاتب إلى أن اتحاد العمال الرسمي حاول تدمير الاتحادات العمالية المستقلة، وأصبح الإضراب في ظل النظام العسكري "خيانة"، ويقول: "يمكنك مشاهدة كيف يتناسب هذا مع رواية السيسي المتعلقة بالمؤامرات والخيانة ضد الدولة، فالاشتراكيون العلمانيون أخطر على الدولة من الإخوان المسلمين؛ لأنهم قادرون على إغلاق اقتصاد مصر، بل والإطاحة بالقيادة العسكرية إن لم يتم قمعهم".
ويشير التقرير إلى أن هذا بالضبط ما فهمه ريجيني، الذي أعادت مجلة الاشتراكيين البريطانية "ريد بيبر" طباعة مقال نشره في الصحيفة الإيطالية "إلمانيفستو"، حيث كتب ريجيني عن مركز خدمات اتحادات ونقابات العمال، باعتبارها منارة النقابات العمالية المصرية المستقلة، وشرح كيف أدى هجوم السيسي على حريات النقابات العمالية إلى حالة سخط واسعة بين العمال.
وتذكر الصحيفة أن ريجيني علق على مشاركة واسعة للمرأة، وتحدث عن إضرابات عمالية لم يتم نشر أخبار عنها، وقال: "في السياق الديكتاتوري والقمعي في ظل السيسي، فإن هذه الأحداث قد تكسر حاجز الخوف"، مشيرة إلى أنه ربما كانت لريجيني علاقات واسعة مع أعضاء اتحادات العمال "الخونة"، الذين كانوا بالطبع يرغبون بـ"تدمير" مصر.
ويتساءل فيسك: "ترى كيف تعمل الشرطة في القاهرة؟ من هم الذين اتصلوا بريجيني؟ وفي بلد تعد المنظمات المدعومة من أطراف أجنبية والطلاب الأجانب عملاء، فمن هي الجهة التي كان يعمل لصالحها ريجيني؟".
ويلفت التقرير إلى ما ورد في الصحافة الإيطالية والأوروبية عن اسم الجنرال خالد الشلبي، الذي صدر عليه حكم معلق في الإسكندرية عام 2003 لتعذيبه معتقلا وقتله، مبينا أنه الرجل الذي كان مسؤولا عن مركز شرطة الجيزة التي عثر على جثة ريجيني فيها، حيث كان الشلبي هو الذي صرح أن الطالب توفي نتيجة حادث سير، "بالتأكيد، فإن أول مخالفة لتعليمات السير يتعرض فيها الضحية للتعذيب والصعق الكهربائي".
ويخلص الكاتب إلى أن "القصة الحقيقية هي أن ريجيني مثل أي طالب وصحافي ذكي، اكتشف التهديد الأكبر على الديكتاتورية، ودفع بالتأكيد الثمن".