توقفنا في المقال السابق عند صفات ومواصفات القيادة التي بمقدورها أن تأخذ بيد الأمة للخروج من حالة التيه الراهنة والممتدة منذ عقود -ويبدو لي للأسف وأعتذر عن تشاؤمي- لسنوات إن لم نقل لعقود.
عدة عناصر تتحكم في قدرتنا على إيجاد قيادة بالمواصفات التي ذكرتها في المقال السابق، منها على سبيل المثال العامل البيئي؛ فالعالم العربي بيئة قاتلة للموهوبين والمبدعين، وهناك حالة من التحاسد تدفع إلى لفظ أي مشاريع قيادية ومحاصرتها وتشويهها، بل وقتلها معنويا.
هذا الأمر ليس مقصورا على الحكومات أو مراكز السلطة، بل يمتد أيضا إلى مؤسسات المجتمع المدني أو التيارات والجماعات الدينية، ومرة أخرى لا أستثني أحدا، فالجماعات الدينية تقتل طموح الأفراد وتغتال مشاريع القيادات الناشئة بحجج واهية، والنتيجة هو بقاء قياداتها التاريخية أطول فترة ممكنة في مكانها، وحين تتساءل: لماذا لا تمنح هذه الجماعات الفرصة لشبابها؟ يأتيك الجواب الفوري: أين تلك القيادات؟ والإجابة صحيحة أن القيادات أو مشاريع القيادات يتم تدجينها أو تطفيشها أو قتل طموحها، وتحويلها إلى كائنات بلا طموح، حتى لو كان مشروعا.
سألت يوما ما المحلل السياسي التركي محمد زاهد جول، في إحدى حلقات برنامجي (مع زوبع)، عن الفارق بين البروفيسور نجم الدين أربكان ومن تلاه من قيادات مثل عبد الله جول ورجب طيب أردوغان، ففاجأني بقوله: إن كل ما تراه هو من غرس البروفيسور أربكان مع فارق بسيط هو أن جول- أردوغان أطلقا طموح أعضاء الحزب (بضوابط)، وتركوهم يتنافسون من أجل خدمة الجماهير، بينما كانت مدرسة البروفيسور أربكان تميل إلى فكرة كبح جماح الطموح الشخصي لأعضاء جماعته خوفا عليهم.
هناك من يرى أن الطموح الشخصي يتنافى مع الإخلاص، وأن الطموح قرين الرياء والسمعة والشهرة، وأن هذه آفات تقتل الشخص الموهوب، وبالتالي يتعين قتل طموحه حتى لا يقتله غروره، وهذا منطق معوج، فالأصل أن نتبنى هذه المواهب، وننمي شعورها وقدرتها التنافسية في إطار ضوابط أخلاقية وإيمانية تساعدهم على أن يكونوا قادة أسوياء، وليس مجرد عاهات تقود بفعل الأقدمية ليس إلا.
دائما ما أستشهد بأحد كشافي النادي الأهلي
المصري، وكان اسمه عبده البقال، واسمه الحقيقي (عبد المنعم حسن)، الذي كان يجول بين أندية الريف المصري وصعيده بحثا عن موهوبين يستقطبهم ويضمهم قبل غيره إلى النادي الأهلي، وإذا ما نظرت عبر تاريخ الأندية الكبرى في مصر على سبيل المثال ستجد أن معظم مشاهير كرة القدم قدموا من المناطق النائية، بفعل رجل كان يؤمن بالمواهب، ولديه القدرة على اكتشافهم وتسويقهم والدفاع عنهم.
العالم العربي مليء بالموهوبين في كافة الفنون والعلوم، وكل ما يحتاجه العالم العربي هو كشاف ماهر وأندية أو أقنية لديها القدرة على تبني هؤلاء الموهبين وإنضاجهم وإعادة تقديمهم للمجتمع كقادة رأي ومفكرين وأدباء وساسة أيضا.
الإشكالية الكبرى الأخرى بعيدا عن الجوانب النفسية والاجتماعية هي عامل الزمن، فكلما تأخرت الأمة في اكتشاف وصناعة قياداتها زادت مدة بقائها في التيه، وهذا ما يدفعني إلى التشاؤم مرة أخرى، فالأمل الذي مكان معقودا على تيارات كبرى وجماعات لها تاريخ بدأ يتسرب من أعماقي ويتحول إلى كابوس، وأنا أتابع ما يحدث لجماعة
الإخوان المسلمين هذه الأيام، ولا يخفى على أحد أن دولا أوروبية كبرى لا تزال تنظر بدهشة إلى حالة التشرذم التي تعاني منها الجماعة منذ الانقلاب وحتى اليوم، وبعض المحللين والسياسيين يعتقدون أن الأمر مجرد خدعة من الإخوان، ويرفضون فكرة أن شرخا كبيرا يحدث حاليا في جدار جماعة تجاوز عمرها الثمانين عاما.
الشرخ الذي أصاب الإخوان أصاب غيرها من قبل، وراهن الجميع على الإخوان بما توفر لديهم من خبرات السنين، بيد أن الواضح أن الخبرة ليست كافية إذا غابت القيادة، وحتى القيادات التحولية التي أحدثت فارقا في حركة التاريخ لا يمكنها إحداث هذا التغيير دون وجود شورى حقيقية تحول دون أن تصبح المؤسسات والجماعات والدول فريسة في يد قائد الضرورة، الذي لا غنى عنه ولا بديل له ولا شريك له أحيانا.
غير أني من المؤمنين بأن الكوارث والمصائب التي تأتي مجتمعة خير من تلك التي تأتي فرادى؛ لأن المصائب المجمعة وبصراحة تمهد التربة لتغييرات جذرية عوضا عن التغييرات الشكلية التي أعطت انطباعا إيجابيا (وهميا) بالتحسن، بينما المرض يسكن أحشاء الأمة وضميرها.
لقد عاشت الشعوب عقودا وهي تنتظر خروج قيادات تأخذ بيدها من عالم التيه إلى عالم الحقيقة، ولكنها أي الشعوب لم يكن لها دور في اختيار أو اختبار تلك القيادات و اكتفت بالفرجة والتشجيع أو إلقاء اللوم والاتهامات، وأعتقد أن الفرصة اليوم باتت متاحة أكثر من ذي قبل لكي يكون للشعوب كلمة تعلو فوق الحكام وفوق التيارات والجماعات.
وكلمتي الأخيرة في هذه السلسلة أن مصيبة الأمة الحالية هي أن معظم نجبائها كانوا حسني الظن -زيادة عن اللزوم- فيمن اعتقدوا أنهم قادرون على قيادة الأمة إلى بر الأمان، وأنه آن الأوان لكي يبحث كل منا عن قيادة فيكتشفها فيمن حوله، أو يبادر بتبني أي مشاريع قيادية محتملة. ولو جاز لي أن أطلق شعارا لهذه المرحلة التي تهاوت فيه الأحلام بفعل القيادات القزمية التي تصدرت المشهد لعقود، لكان الشعار هو (امنح نفسك شارة البدء وانطلق، لا تلتفت خلفك، لا تنتظر أحدا).