مرة جديدة نجد الحبر منقاداً إلى الكتابة عن «ثقافة» الشتيمة والتجريح الإعلامي من فوق السطوح في لبنان بما يتجاوز الحد والحدود. الثقافة هنا كلمة غير مستحبة لأنها تناقض معناها وهي كلمة تدور بكلّ اشتقاقاتها بين رجلي الثقافة؛ لذا وضعناها بين قوسين لنجهر بأننا لا نعترف بها، وهي لا تمثل بلدنا ولا تقاليدنا ولا شيمنا.
يبدو هذا الوطن الجميل مستغرقا في خطب العديد من سياسييه وأنصارهم الكثر من الإعلاميين في الصحافة والشاشات والبرامج التي لا يمكن حصرها وضبطها وتمويلها، وكأنّنا ألسنة مشققة مسلولة سليطة حافلة بالمسامير والسهام في ما يعرف بال «التوك شو»، وفي مختلف الاتجاهات من دون أيّ حساب لخطوط العودة. تلك مصيبة مضافة فوق مصائب القتل والذبح والتفجير وتعداد الضحايا اليومي الذي يملأ الحياة المعاصرة، ويشوه تاريخ العرب والمسلمين في الشرق والغرب.
ويبدو لي المناخ العام سيئا وخطرا إلى أقصى الدرجات، كما يبدو المزاج العام معكرا ومنقسما على حد السيف، مزروعا بالسباب والشتائم والتحقير وتهشيم الآخر ورفضه وتبخيسه، وجعله موضوع نقد واستهتار وكيد وخيال مظلم. إنّها ثقافة أو ظاهرة انحطاط تتفاقم لتجعل من لبنان منصّة تقاذف عربية وإقليمية ومذهبية واستفزازية، حافلة بالكذب والافتراءات والنميمة Calomnie والشائعات، و«تركيب المقلة» في الأخبار والمقالات والتحقيقات أو في «جلسات القفا» أو «نتف الفروات»، كما يقال في العامية، تشبيها بالهررة وبنات آوى أو بالذئاب والضباع وغيرها من الكائنات المفترسة.
هذا ليس لبنان الذي نعرف. هذا سقوط ما بعده سقوط. أصبحت الكلمة أقسى من السيف الجارح وهي تجرّ إلى سحب السيوف من مغامدها، ويقال إنّ «الكلمة الطيبة تريح بينما الكلمة القاسية تزيح»، وهي قد تقود إلى المقصلة بأبعادها الفردية والجماعية والوطنية والقومية. نحن في حالة انزياح وترتفع السدود بيننا وبين أشقائنا العرب.
نعم تتقاتل الوحوش في الغابات والأراضي الوعرة محكومة بالغريزة ونهش الطرائد والضحايا، لكونها مخصية العقول وخارجة من كلّ قيمة وحكمة سوى هندسة الغريزة، التي منحها الله هامشا للرحمة بالضحية ودغدغتها وملاطفتها قبل الانقضاض عليها.
لكن، أن يتحول العديد من الكتاب في زرع بذور الشقاق وحرق المراكب كلها وتحطيم الجسور في الحوار والتفاهم ونسف القواعد الذهبية في أخلاقيات الإعلام، فأمر يعكس قطعا علامات الانهيار الكبير في البنيان السياسي والوطني والأخلاقي اللبناني، ليس على المستوى الداخلي اليابس في نسغ السلطات التنفيذية أي في فراغ الرئاسة والبرلمان والمؤسسات، بل في علاقاته العدائية المتوسعة مع العرب والعالم ومن دون حساب لردود الفعل وتداعياتها، ومن دون التفات أو تذكر أن البداية كانت مع الكلمة:
نعم «في البدء كانت الكلمة وكانت الكلمة هي الله..» وكانت قبل الدين بمعنى اللوغو Logos الذي يعني العقل والتفكير، بما يتجاوز الفكر الفلسفي الذي تمّ تشييده على محاورات سقراط، وصولا إلى تلميذه أرسطو، ثمّ عمارة أفلاطون المثالية في السلطة، التي ما زالت قبب التحاور في أرجاء أثينا مرفوعة المعالم التاريخية يتقاطر إليها السائحون من أرجاء المعمورة.
وبهدف إدراك الجروح والعداوات والحروب التي تورثها الكلمات أحيانا، نورد هذه القصّة التربوية تذكيرا بثقافة الإغريق الواسعة في تربية الجسد والنفس واللسان والأخلاق:
أعطى أب لابنه يوما كيسا مملوءا بالمسامير وقال له:
يا بني كلما أهنت شخصا أو ضربته أو جرحته، اذهب إلى بابٍ خشبي في سور الحديقة واطرق فيه مسمارا. لم يفهم الولد لماذا طلب والده منه ذلك ولكنه أطاع أمر والده، وأصبح كلما يظلم أحدا أو يصرخ بوجه أحد أو يجرح أحدا يخرج ليطرق مسمارا في ذلك الباب. ومع مرور الأيام أصبح الولد أكثر تحكما بنفسه ولسانه وسلوكه، وانخفض عدد المسامير التي يطرقها كل يوم في السور إلى أن وصل إلى اليوم الذي لم يعد يطرق فيه ذلك الولد أي مسمار في الباب. طار الولد من شدة الفرح وذهب معتزا إلى والده وأخبره بذلك. قال له والده:
أحسنت يا بني، أنت الآن شخص تتحكم بنفسك وفي أعصابك ويقودك عقلك، لكن مهمتك لم تنته بعد كي تصبح ناضجا.
استغرب الولد قائلا: وماذا أفعل بعد ذلك يا أبي؟
قال الأب: كل يوم يمضي ولا تزعج أو تجرح أو تظلم أو تضرب فيه أحدا انزع مسمارا من ذلك الباب.
مضت الأيام واستمر الولد في نزع المسامير في كل يوم لا يؤذي فيه أحدا، إلى أن وصل إلى اليوم الذي نزع فيه الولد آخر مسمار في ذلك الباب. طار الولد من الفرح مرة ثانية، وأسرع إلى والده ليخبره بذلك. وعندما أخبره بما وصل إليه، أخذ الأب ابنه إلى الباب وقال:
أحسنت يا بني، فأنت لم تصبح شخصا متحكما بأعصابك فقط، ولكنك أصبحت شخصا طيبا ناضجا حكيما، لا تؤذي أحدا. انظر إلى الثقوب في الباب الخشبي التي خلفتها تلك المسامير. لقد استطعت يا بني أن تنزع المسامير التي طرقتها هنا، ولكنك لا ولن تستطيع محو تلك الثقوب التي تركتها المسامير!
وكذلك هم البشر يا بني، عندما تجرح أحدهم فأنت تطرق مسمارا في قلبه ومشاعره وكرامته وقد تستطيع أن تعتذر وتنزع ذلك المسمار، ولكنك لن تنزع أثره لأنه سيبقى ذكرى مؤلمة في حياة ذلك الشخص. لذلك يا بني لا تجرح الآخرين أو تؤذهم بكلماتك، فإنك لن تستطيع محو ذلك الجرح إلى الأبد.
الإنسان لسان واللسان قول وكلام، إن صنته صانك وإن خنته خانك وقد يخون وطنك وأمتك.
عن صحيفة الخليج الإماراتية