تحتاج مؤسسات المجتمع المدني
العربية إلى أن تطرح على نفسها السؤال التالي: أيّ شعار يجب أن يحظى بالأولوية القصوى، وينال اهتماما يوميا، ويتداول على ألسنة الناس ليل نهار، حتى يصبح جزءا من تطلعاتهم المستقبلية وهدفا محوريا تدور من حوله كل الأهداف الأخرى؟ أي شعار يجب أن يتدرب المواطن على استعماله كأداة يقيس بها صحة، أو خطأ ما يراه ويسمعه، ما يقبله أو يرفضه؟
في اعتقادي أن شعار
العدالة، ليس كلمة غامضة تستعمل بخفّة، أو حتى بانتهازية، وإنما كمفهوم له معانيه ودلالاته وأساليب تطبيقه في الواقع. ذلك أن مفهوم العدالة هو المدخل الضروري للتفريق بين
الديمقراطية الحقيقية والديمقراطية المظهرية المزيّفة، بين النظام الاقتصادي الاجتماعي الإنساني والنظام الاقتصادي الأناني الجائر، بين الحرية الفردية المسؤولة والحرية الفوضوية العبثية، بين القانون المنصف والقانون المنحاز من وراء قناع، بين تساوي المرأة الحقيقي في الإخاء الإنساني وبين تساويها الكاذب خارج ذلك الإخاء.
نحن نريده مفهوما صالحا لأن يضّم تحت جناحه كلّ الفضائل الأخرى، من مثل الرحمة، والتسامح، والكرم، والشجاعة وغيرها، التي من دون التصاقها بمفهوم العدالة تصبح في خطر النكوص عن معانيها السامية واستعمالها بابتذال من قبل قوى الشر، أي أن تكون العدالة كما قال أرسطو" الفضيلة الكاملة ".
إن كنا نريد لهذا المفهوم أن يقوم بكل تلك الأدوار، أفلا يصبح من الضروري الاتفاق على دلالاته الأساسية؟ خصوصا أن ملايين الحناجر العربية صرخت مطالبة بالعدالة الاجتماعية في بداية، وعبر مسيرة الربيع العربي.
بادئ ذي بدئ، فإن مفهوم العدالة مُختلف حوله. وكمثال فنظرة المدرسة الليبرالية إليه تختلف جذريا عن نظرة المدرسة الماركسية إليه. وفي وطننا العربي فإن نظرة المدرسة الإسلامية السياسية تختلف عن كلا النظرتين.
من هنا، فإن المطلوب هو الاتفاق على مفهوم صالح للواقع العربي، الحالي لأن العدالة، مثلها الديمقراطية، هي سيرورة لها بداية ولكن ليس لها سقف، أو نهاية، وهي محكومة جزئيا بالتاريخ والثقافة والقيم والعادات.
إن المفكر الأردني فهمي جدعان يرى أن يكون المنطلق العربي لمفهوم العدالة هو شعار الخير العام الذي هو حصيلة النظر إلى الدين كمقاصد كبرى، وليس كجزئيات متناثرة قد تبدو أحيانا أنها متناقضة. إنه يذكّر بأقوال الفقيهين الشاطبي والقرافي قديما، وبأقوال الطاهر بن عاشور حديثا من أن المصلحة العامة ينبغي أن تكون أساسا لجميع الأحكام القانونية، هذا إن أريد لها أن تكون قوانين عادلة.
وهو يعتقد أن الانطلاق من ذلك الفهم الفقهي، فهم الدين كمقاصد كبرى، سيسهّل على العرب الأخذ بالكثير من النظرات الإنسانية الصائبة حول العدل في مختلف المدارس الفكرية الغربية ليدمجها مع متطلبات الواقع العربي ويخرج بنظرة عربية متكاملة حول مفهوم العدل.
من المؤكد أن ذلك المنطلق لن يتناقض مع المفهوم الغربي القائل إن العدالة هي الالتزام بما تفرضه القوانين، إذ إن المنطلق العربي لا يقبل وجود قوانين لا تقوم على أساس المصلحة العامة والنفع العام ، وهو لن يتناقض مع المفهوم الغربي من أن العدالة هي المساواة في الحقوق، إذ لا مصلحة عامة إن لم تُبن على المساواة النسبية، ولكن العدالة، في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا بين الجماعات فقط، وإنما بين الأفراد المواطنين أيضا، ضمن مفهوم المواطنة القانونية الحقوقية المتساوية الحديثة.
إن ذلك سيقود إلى وجود دولة الرفاهية الاجتماعية، حيث تكافل القوي مع الضعيف، والغني مع الفقير، وحيث المساواة في الفرص وتقاسم كل أنواع الخير العام، وحيث الحرية لا تنقلب إلى فردية أنانية عابثة، وحيث لا يسمح للفوارق الجنسية (الجندرية)، أو الانتماءات الدينية، أو المذهبية، أو القبلية الفرعية أن تلعب خارج ملعب المصلحة العامة والنفع العام، ذلك أن الهوية الإنسانية والوطنية العامة هي أهم، وأسمى من كل الهويات الأخرى، وبالتالي هي جزء من العدالة.
سيكون مفجعا أن تطرح الجماهير العربية شعار العدالة الاجتماعية، مقرونة بالحرية والكرامة الإنسانية، فلا تقوم النخب الفكرية والسياسية بإعطاء مكان بارز لها في الفكر السياسي العربين وفي البرامج السياسية للأحزاب وفي الحياة المدنية، وأن تتوقف قوى التسلط العربي عن تجاهل ذلك الشعار، وأن يتوقف علماء الفقه الإسلامي العربي عن قصر اهتمامهم بصفات الحاكم العادل من دون الاهتمام بصفات نظلم الحكم العادل ومتطلباته الصّارمة.
لنتذكر أن الإنصاف الذي امتدح كثيرا في تراثنا، هو العدالة مطبقة في الواقع، وهو العدالة النابضة بالحياة. والتراحم والتعاضد والشفقة والإحسان لا يحل محلّ العدالة. إنهم يمهدون لها ولكن لا يأخذون محلّها.
في هذه اللحظة تجري محاولات كثيرة لترسيخ فكر سياسي ديمقراطي في أرض العرب، بعد أن عانت تلك الأرض عبر قرون كثيرة ويلات الظلم والتسلّط. من أجل أن يكون لذلك الفكر الديمقراطي التأثير الكبير في نقل مجتمعات العرب بعيدا عن التخلف لابدّ أن تكون العدالة منطلقا له، ومكوّنا أساسيا من مكوّناته، وحاميا له من التشوّه والانزلاق الدوري نحو عوالم الظلم والتسلّط.
(عن صحيفة الخليج الإماراتية ـ 31 آذار/ مارس 2016)