لاشك أن سلسلة التفجيرات التي اجتاحت العاصمة البلجيكية بروكسل صباح الثلاثاء 22 مارس 2016 والتي استهدفت مطار بروكسل الدولي وكذلك محطة مترو “مالبيك“ دليل واضح على أن الإرهاب بات معولما، وأن مواجهته يجب أن تكون بصورة تكاملية تعاونية على مستوى العالم.
وحول الدوافع الحقيقة وراء طبيعة العملية الإرهابية في بروكسل وأسبابها، وما إذا كانت رد فعل سريع ناجم عن قيام الأجهزة الأمنية البلجيكية بإلقاء القبض على " صلاح عبد السلام" أحد العناصر الإرهابية المتورطة في تنفيذ هجمات باريس، وقد تصدق احتمالية أن تكون هذه العملية مخططا لها سلفا من
تنظيم الدولة الإسلامية، في محاوله للتشكيك في قدرات الدول الغربية على صد هجمات يمكن أن يصوبها التنظيم في أي وقت وضد أي دولة حول العالم.
ومن خلال السطور القادمة سنحاول أن نسلط الضوء علي أسباب تنامي ظاهرة الإرهاب، والمحطات المختلفة للهجمات الإرهابية في قلب
أوروبا، وصولا لدلائل هجمات بروكسيل وما تحمله من رسائل، والتطرق لتداعيات وتأثيرات محتملة للعملية الإرهابية.
أولا: المجتمع الدولي ودوره في صناعة الإرهاب.
من المقطوع بصحته أن ظاهرة الإرهاب اتخذت من ثورات الربيع العربي وما نتج عنها من ضعف مؤسسات الدولة في أغلب البلدان، التي ثار فيها مواطنوها ضد الاستبداد والطغيان والظلم والتهميش، بالإضافة إلى عدم فاعلية الأجهزة الأمنية وسيلة لبسط نفوذها على مساحات واسعة خصوصا في بلاد الشام، وهو ما مهد لظهور" داعش" كتنظيم إرهابي ينطلق من منظور فكري ساع لإعادة دولة الخلافة تحت ولاية " أبو بكر البغدادي"، ولكن بالنظر إلى جذور الإرهاب لا يمكننا غض الطرف عن دور القوى الدولية الكبرى في بروز هذه الظاهرة، وهو ما يمكننا أن نشير إليه على النحو التالي:
أولا: الدعم الغربي الكامل لإسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي وكذلك الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مثل بيئة مناسبة يمكن من خلالها أن تعمل التنظيمات الإرهابية على استقطاب الشباب، وساعدهم في ذلك تبنيهم لشعارات مواجهة مباشرة نحو القوى الغربية الداعمة للكيان الصهيوني.
ثانيا: يعتبر الغزو السوفيتي لأفغانستان الذي كان موجها بالأساس لدعم النظام الشيوعي في أعقاب استيلائه على السلطة بالقوة، مقدمة لتدفق عدد من الشباب من مختلف البلدان العربية لمقاومة الغزاة، وكان ذلك تحت رعاية ودعم من قوى دولية ترفض الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكانت هذه البيئة ملائمة لظهور تنظيم " القاعدة".
ثالثا: أدى التدخل الأمريكي في
العراق في عام 2003 دورا واضحا في بروز القاعدة في العراق، نتيجة الإدارة السيئة للأوضاع داخل العراق في أعقاب سقوط نظام صدام حسين.
رابعا: ساهم التدخل الإيراني المتزايد في المنطقة وسيطرة طهران على عدد من الدول العربية "العراق، سوريا، اليمن، ولبنان" في إضفاء طابع مذهبي على الصراع في المنطقة، وهو ما اصطلح عليه "طأفنة المنطقة" حيث مثل الشد والجذب بين المحور السني والشيعي فرصة مواتية وبيئة حاضنه لتنامي الإرهاب .
وعلى الرغم من أن المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية رفع شعار الحرب ضد الإرهاب، إلا أن التحالف لم ينجح في تحقيق أهدافه بشكل جيد خصوصا في سوريا والعراق، وهو ما دفع روسيا للتدخل العسكري في سوريا لوقف الزحف الداعشي وتقليص نفوذه، ورغم هذه المحاولات إلا أن استفحال وتوحش داعش أصبح واقعا لا يمكن غض الطرف عنه، فأسلحتهم ومعداتهم الحربية لا تقل حداثة عن الأسلحة التي تملكها الجيوش النظامية، حيث ذهب البعض للحديث على أن داعش لم يعد ينقصها عن هذه الجيوش إلا سلاح الجو، كذلك فإن أحد مظاهر قوة تنظيم داعش أن أعضاء التنظيم يقبلون على تنفيذ عملياتهم المختلفة، ولديهم قناعة بأن الخلود في أعالي الجنان سيكون مصيرهم.
ثانيا :المحطات المختلفة للاعتداءات الدامية في أوروبا.
من المؤكد أن أحداث بروكسل التي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام مسؤوليته عنها، لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبقها عدد من العمليات الإرهابية التي ضربت أوروبا منذ انفجار مارس 2004 حيث شهدت العاصمة الإسبانية مدريد سلسلة تفجيرات متزامنة في محطة قطارات "أتوشا رينفي" بالعاصمة مدريد، استهدفت شبكة قطارات نقل الركاب وكان ذلك قبل ثلاثة أيام من الانتخابات العامة الإسبانية، وقد تم الإعلان عن مقتل 191 شخصا وجرح 1755، وحول منفذي هذه العملية فقد أثبت التحقيقات القضائية الإسبانية أن منفذي هذه التفجيرات كانوا من خلية استوحت فكرها من تنظيم القاعدة.
كذلك جاءت تفجيرات لندن في يوليو 2005 ضمن سلسلة عمليات انتحارية استهدفت المواطنين في أثناء ساعة الذروة، حيث قام 4 أشخاص بالتسبب في 4 تفجيرات انتحارية، ثلاثة منهم حدثت في قطارات لندن تحت الأرض، والانفجار الرابع حدث في حافلة نقل عام تتكون من طابقين، وقد أسفرت الهجمات عن مصرع 50 شخصا وإصابة ما يقرب من 700، وحول منفذي هذه العملية فقد أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عنها.
وعلى المنوال نفسه جاءت عملية إطلاق رجل للنار في بهو المتحف اليهودي في بروكسل في مايو 2014، التي تسببت في 4 أشخاص ضمن هذه الأحداث الدامية التي أصابت دول أوروبا.
وكان استهداف صحيفة " شارل إيبدو " التي جاءت ردا علي عدد من الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، ضمن الاعتداءات التي نفذت في يناير 2014 والتي تسببت في مقتل 12 شخصا، وكان ذلك قبل أن تتعرض فرنسا لحلقة جديدة من مسلسل الاعتداءات الدامية التي هزت عرش أوروبا في 13 نوفمبر 2015 حيث وقعت الاعتداءات هذه المرة في قاعة الحفلات بمسرح " باتاكلان"، وفي عدد من المطاعم وسط العاصمة وهو ما أسفر عن 130 شخصا وإصابة 350 في حادث، كان بمنزلة الأسوأ في تاريخ فرنسا، وحول منفذي هذا الحادث فقد أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنه.
ثالثا: تفجيرات بروكسل رسائل متعددة وتأثيرات وخيمة
لاشك أن تفجير بروكسل يحمل في طياته عددا من الرسائل المختلفة، من بين هذه الرسائل أن تنظيم الدولة الإسلامية تجاوز حدود بلاد الشام بل وأصبح ظاهرة عالمية له خلايا نائمة في قلب أوروبا، كذلك فإن الهجمات على مطار دولي ومحطة مترو قرب مؤسسات تابعة للاتحاد الأوروبي تدل على أن هذه العمليات موجة ضد دول الاتحاد الأوروبي عموما، خصوصا أن منفذي العملية اختاروا ساعة الذروة لاستهداف أكبر عدد ممكن من الأرواح، وهو ما يعني فشل حرب التحالف الدولي ضد داعش، بدليل أن التنظيم مازال على قيد الحياة.
كذلك تحمل العملية الإرهابية في بروكسل دلاله واضحة على ضعف الجهاز الأمني البلجيكي، الذي فشل في تأمين المناطق الحيوية بعيدا عن مرمى الإرهاب، خصوصا أن هناك عددا من التحذيرات التي قد تم الإعلان عنها حول إمكانية قيام التنظيم بعملية انتقامية، كرد فعل على القبض على القيادي الإرهابي " صلاح عبد السلام " أحد المتهمين في أحداث باريس في نوفمبر2015 . وهو ما يعني أن هناك فشلا استخباريا في كشف تلك الخلايا، وإحباط هجماتها الإرهابية بعمليات وقائية استباقيه.
وحول تأثير الأحداث الدامية في بروكسل وتداعياتها، يمكن تأكيد ضرورة تشديد الإجراءات الأمنية على العائدين من سوريا والعراق، خصوصا في ظل وجود عدد كبير من المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية؛ فوفقا لعدد من التقديرات فإن ما يقرب من 500 مواطن بلجيكي سافروا إلى سوريا والعراق خلال الفترة الأخيرة، وانتهى المطاف بمعظمهم إلى القتال ضمن صفوف تنظيم داعش.
كذلك سيمنح الحادث الأحزاب اليمينية فرصة لتوجيه اتهامات للسلطات الأوروبية بأنها تدفع ثمن إنسانيتها واستقبالها للاجئين، دون إخضاعهم لتحقيقات تكشف هويتهم الحقيقة وهو ما يعطي الفرصة لهذه الأحزاب للتعبير عن أفكارها الرافضة لاستقبال اللاجئين داخل أوروبا، وكذلك دعم فكرة إغلاق حدود منطقة "الشنغن"، ووضع قيود على حركة الهجرة الجماعية التي تستهدف أوروبا.
ويجب أن نضع في اعتبارنا أن هذا الحادث أيضا سيعطي مبررا للمرشح الجمهوري المحتمل لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية "دونالد ترامب " بالمضي قدما في تصريحاته العنصرية ضد المسلمين، التي يرى فيها البعض أنها استنساخ لسياسات نازية وفاشية، وكل ذلك سيؤدي بلا شك لزيادة أسهم رجل الأعمال الأمريكي في سباقه الرئاسي.
وعموما يجب تأكيد حتمية مواجهة الإرهاب ووقف تمدد نفوذه، وذلك من خلال إدراك المجتمع الدولي لخطورة الظاهرة والعمل بشكل تكاملي من خلال تضافر الجهود الدولية لمجابهة هذا الوباء، ويجب أن تكون الصبغة التعاونية بين الأجهزة الأمنية للبلدان كافة فيما بينها هي الصيغة السائدة، وذلك من خلال تبادل المعلومات بصورة مكثفة وسريعة، وعدم التهرب من ذلك بحجة حماية مصدر المعلومات، ولا يمكن أن نكتفي بهذا فقط بل لابد من وضع آليات للمواجهة الفكرية للتنظيمات الإرهابية، بدلا من الانشغال الدائم بالبحث عن الثغرات والحلول الأمنية رغم أننا لا يمكن أن نتجاهلها، إلا أن معالجة العوامل المؤدية للإرهاب التي تكمن في البيئة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أمر بالغ الأهمية ولا يمكن تجاهله.
وأخيرا، فداعش بمنزلة السكينة التي تذبح الإسلام، ونارها ستكوي الجميع، وعلى المجتمع الدولي أن يعلن عن رغباته ونواياه الحقيقة في المرحلة القادمة، فلا مجال لحسابات ضيقة ولا فرصة لدعم وتمويل مثل هذه التنظيمات، فإذا خلصت نوايا المجتمع الدولي وتوحدت جهوده يمكننا وقتها أن نتحدث عن نهاية قريبة لتنظيم بات يملك كل أدوات التأثير.