ربما يودّ «الربيع» أن يتنصّل من اسمه، لفرط ما لحق به من تشويه وتعذيب وتجريف، بحيث لم يعد دالاً على الخضرة والندى وتفتّح الأزهار والضياء، بل بات معادلاً للقتل والتدمير والألم البشري الهائل، منذ اندلعت «ثورات
الربيع العربي» قبل أكثر من خمس سنوات.
وعلى رغم المآلات المأسوية التي قاد إليها «الربيع» في أكثر البلدان التي «نبت» فيها، إلا أنّ ثمة من يرى أنّ هذه المخاضات الصعبة التي تعصف ببلدان الربيع العربي ليست سوى بداية الربيع، وأنّ مسيرة التغيير طويلة ومتشعّبة ومعقدة، مستشهدين بـ «الربيع الأوروبي» الذي قاد القارة العجوز من الظلمات إلى النّور، واستغرق نحو مائة وخمسين عاماً.
ولئن كان «الربيع العربي» وعداً أم وبالاً، فإنّه في كلا الحالتين استحقاق تاريخي، وإحدى الدورات الكونية التي لا يسلم من تأثيراتها بشرٌ أو جغرافيا. ويحقّ لنا أن نعتبره حتمية تاريخية، ولو بغير المعنى الماركسي الكلاسيكي، تماماً كما أنّ الربيع حتمية طبيعية في غالبية الأحيان.
في الطبيعة، يحتاج الربيع إلى خصوبة التربة وتوافر الماء والنور والغذاء لكي يكون الحصاد يانعاً ووفيراً. وقد توافر بعض هذه العناصر عندما اندلع «الربيع العربي»، فقد كان الطغيان قد بلغ مداه، وكان الفساد عامّاً وطامّاً، وكان صوتُ الناس مخنوقاً، وكانوا أقرب إلى كونهم أرقاماً، لا بشراً أو مواطنين، وكان الفقر والبطالة وسوء العيش والمنقلب أكثر ما يسمُ البقاع التي عصفت بها «الثورات». لكنّ الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فأفصح الربيع العربي عن نتائج مخيّبة للآمال، وصعود أيديولوجيات استحواذية، ومذهبيات إقصائية، واستثمارات سياسية، واقتناص جماعات إرهابية الفرصة للانتقام من المجتمعات العربية والأديان، وتلويث السّلم الأهلي، وإعادة الإنسان القهقرى إلى كهفه الأول.
بيْد أنّ ذلك كله، على قبحه وفداحته، لا يتعيّن أن يحرف بوصلة التغيير المؤجل، أو أن يطفئ شوق الشعوب إلى الكرامة والحرية والعدل والأمن والاستقرار. إنّ هذا الشوق أصيلٌ في عروق البشر، فالإنسان بطبعه توّاقٌ إلى الانعتاق والتمرّد على السائد، لا سيما إن كان يرزح تحت نيْر قوى ظلامية أو استبدادية تحزّ عنق تطلعاته من الوريد إلى الوريد.
لا بأس أن تكون ثمراتُ السنوات الخمس من «الربيع العربي» محمّلة برائحة الموت والدمار والخوف. إنّ ذلك يتعيّن أن يخضع للتحليل والمساءلة. لكن من الظلم أن نقلب ظهر المجنّ للتغيير برمته، فنروح نمتدح الطغيان، لأنه يوفر الأمن، ونشرع في الحنين إلى عصر القذافي وصدام حسين وعلي عبدالله صالح وحسني مبارك وزين العابدين، وكذلك بشّار الأسد الذي لا محالة سيلقى مصير أشقائه الدمويين، ويلتحق بقافلة العار.
وبعد أكثر من خمس سنوات من الحصاد المرّ، لا تزال أشواق التغيير تصهل، خصوصاً أن الوعود بالتحولات السلمية في هيكلة الأنظمة العربية لم تسفر عن نتائج مرضية في غالبية الأقطار، ما يعني أنّ النّار التي اختبأت تحت الرماد مرشّحة للتوهج مجدداً.
ولا ينفع، في غمرة هذه العواصف، أن يبقى بعض الأنظمة مستمسكاً بمعزوفة الأمن أولاً، على ما تستبطنه تلك المعزوفة من تأجيل لاستحقاقات إقامة العدل والمساواة والتحولات الديموقراطية، فلا تناقض بين الأمن والحرية. إنهما متلاحمان، وكلاهما رافعة للآخر، فالأمن بلا حرية يقود إلى الطغيان، والحرية بلا أمن مصيرها الفوضى وتفجّر المجتمعات من الداخل.
ومن دون نبرة وعظية، يتعيّن الإقرار بأن ما تجلبه قيم العدل والمساواة وتداول السلطة، على رغم متاعبها، أكثر بكثير مما تجلبه التحولات الشكلية التسكينيّة التي ظاهرها ديموقراطي، وباطنها ديكتاتوري بطريركي.
الربيع اندلع. قد تكون ثماره مُرّة، لكنّ قطاره لن يتوقف. ربما يحتاج سنيناً أو عقوداً كي يحقق وعوده المليئة بالبشرى، لكنه لن يتلكأ عن موعده، ولو ترنّح أو تعثر في مشواره الطويل!
(عن الحياة اللندنية - 10 آذار/ مارس 2016)