قضايا وآراء

محنة التفكير (4)

حمزة زوبع
1300x600
1300x600
نعود لنكمل حوارنا حول كيفية الخروج من حالة التيه، وقلت في نهاية مقالي السابق إن أهم شروط الخروج من حالة التيه التي تعيشها الأمة إن أرادت الخروج-  الذي يبدو لي أن أوانه وللأسف لم يحن بعد- هو استعادة العقل.

وقد يقول قائل وهل يعود للمجنون عقله بعد فقده، وأقول إن ذلك علميا ليس مستحيلا، ففقدان الذاكرة حالة مرضية عارضة يرجى شفاؤها، ولكنني هنا لا أتحدث عن العقل الفردي بل العقل الجمعي الذي هو مجموع عقول أفراد قيادات الأمة ورموزها ونخبها التي تدير دفة القيادة سواء في السياسة أو الفكر أو الثقافة والأدب أو في الاقتصاد أو الرياضة. 

العقل الجمعي للأمة العربية للأسف فقد بوصلته لعدة أسباب لعل أهمها من وجهة نظري هو عملية التغريب التي امتدت لقرون والتي فصلت العقل عن الجسد العربي فتحول العرب إلى مسوخ غربية تتحدث العربية لكنها تكتب من اليسار إلى اليمين حتى وهي تكتب بالحروف العربية، مسوخ جلبت الفن والمسرح الغربي بكل ما فيه من خروج على الآداب والأخلاق وتحاول أن تلبسه على الجسم العربي الذي يعيش بيئة مختلفة تماما عن تلك التي صنعت فيها الثقافة الغربية.

المثير حقا أن النخب التي فقدت عقلها وأرادت أن تعيش بدماغ إفرنجي لم تأخذ من الغرب سوى أسوأ ما فيه، ولم نلحظ على مدار تاريخنا المعاصر إلا فيم ندر أن جاء المستغربون العرب بجديد في مجال الاقتصاد أو السياسة بل كل ما جاؤوا به هو في مجال الأدب أو لنكن صرحاء (قلة الأدب)، فالحديث يدور وبإلحاح عن أهمية العلاقات الجنسية قبل الزواج وعن رفع سن الزواج وعن جريمة ختان البنات وعن حق الشواذ وقائمة أخرى طويلة ليس من بينها إقامة حياة ديمقراطية وتداول السلطة ولا العدالة الاجتماعية ولا حرية التعبير إلا في الجنس والمخدرات وإباحة المحرمات. 

وكما أن حالة التغريب قد أفقدتنا البوصلة، فهناك سبب آخر لفقد البوصلة وغياب العقل الجمعي للأمة وهي ما أسميه منفردا (حالة الخلجنة)، وأقصد بها أن العواصم التي كانت رائدة ثقافيا وفكريا مثل القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وتونس وغيرها قد تحولت في بضع عقود من الزمن وبسبب طفرة النفط في دول الخليج إلى عواصم مستقبلة للثقافة القادمة من الخليج، وهذا ليس أمرا معيبا فكلنا أهل قرية واحدة، ولكن المعيب هو أي نوع من الثقافة جاءت إلينا؟ والباحث بدقة يجد أن الثقافة المحملة جوا وبرا عبر الخليج إلى العواصم المذكورة حملت قدرا كبيرا من تغييب الوعي وملء البطون. 

فالذين عاشوا في الخليج المغلق على نفسه وجد معظمهم أنفسهم وبطريقة لا إرادية يفكرون بلغة الأرقام التي لا تخطئ، وهي باختصار تقييم الشخص الذي يقف أمامك ليس على أساس ثقافته وتعليمه وأخلاقه، بل على أساس أي نوع من السيارات يركب، وأي نوع من الدشاديش يرتدي، وأي نوع من العطور يتعطر، وأي نوع من الغترة والعقال يضع فوق رأسه، وأي مقهى من المقاهي يشرب فيه قهوة الصباح،  وبناء عليه تحول المثقفون الذين عاشوا في الخليج ثم عادوا إلى عواصم صناعة الحضارة في القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق وتونس من صناع للأفكار التقدمية إلى مستهلكين للمظاهر الحياتية القشرية ولكنها من وجهة نظرهم ضرورية لاستكمال عملية إكناز الذهب والفضة وصناعة الثروة ولو على حساب الفكر والثقافة. 

ليس هذا أخطر ما في عملية (الخلجنة)، بل أخطرها هو نقل صيغة الدين وطريقة فهمه من الخليج إلى بقية العواصم دون تمحيص أو نقد واعتبارها الصيغة الرسمية والحصرية للدين، وهذا لعمري أخطر ما في الموضوع، وهو نفسه مفتاح عملية استعادة العقل الجمعي للأمة، فحصر تفسير الدين على بلد معين أو مذهب معين أو تفصيله ليكون مناسبا لحاكم معين هو أكبر عملية لتغييب الوعي وصناعة التيه في العالم العربي. 

كلمة السر في الخروج من التيه هو إدراك أننا تعرضنا لأكبر عملية نصب في تاريخنا المعاصر، فقد استحوذ المغتربون العرب على منابر الثقافة فدمروا تاريخنا ومنجزاتنا الحضارية والثقافية ولم يقدموا فنا حقيقيا ولا منتجا ثقافية واحدا منافسا على أي منصة من منصات الإبداع الإقليمي أو العالمي. 

أما عملية النصب الأخرى فقد وقعت على الأرض العربية حين تم سحب البساط من عواصم صناعة الحضارة والفكر إلى دواوين صناعة القرار في بعض دول الخليج التي لم تستفد حقيقة من الثروة البشرية العربية التي وصلتها مع بداية ظهور النفط في صناعة منتج حضاري يكون نموذجا يحتذى، بل قامت بتفريغ تلك العقول وتحويلها إلى عقول تافهة تبحث عن الثروة ومكان قريب من ديوان السلطة، فلا هي أبدعت ولا تلك الدول تقدمت فكريا، بل كان الجميع ضحية مجموعات أمية فارغة راغبة في التزين ببعض ما يسمون بالرموز الثقافية ومثقفون أو أشباه مثقفين وجدوا في حضن النافذين مكانا آمنا خاليا من النكد والكد والتعب الذهني أو الجسدي مقابل دراهم غير معدودة. 

الخروج مرهون بالتخلص من عمليتي التغريب التافه والخلجنة السطحية فلا الغرب مقصور على العري والجنس ولا الخليج كل همه الأكل والشرب وتغييب الوعي.
2
التعليقات (2)
صالح
الخميس، 10-03-2016 12:59 م
للاسفاهل الثقافه هم بلاء الامه فقد فهمو التقدم بانه تمثل الاجنبي بمسار اموره الحياتيه لا بعلمه وصناعته وتقدمه الحضاري . هم قفزوا للرفاه وطيب العيش بلا انتباه ان هذا له مقدمات . الغرب سرق خيرات امم كثيره استغلها للبحث العلمي وتصنيع السلاح والتكويش على كل المخترعات بل شبابنا هجروا للغرب ليستفيد منهم ويمنعنا عن اية فائده فتصحرت مؤسساتنا كما تتصحر ارضنا وانعدام الحريه التي هي بجر سفن العلم وفضاؤه منعت عنا واصبحنا نحكم من الجهله في السياسه والاقتصاد والعسكريه الحاميه للوطن ومفردة الامن تعني فقط وزارة الداخليه وتوابعها وليس للامن الغذائي او المائي او حماية الوطن ممن يزرع العملاء او يعتدي على سلامة الغذاء ومواد الانتاج من التلاعب ومنع الفساد والافساد بل ادارة الظهر لكل ما هو عربي دون الانتباه ليكون العالم العربي مجالا حيويا ااو سوقا بل مانعا يمنع من التامر . امرنا فرطا ونعيش في ذيل الامم . الحريه كالماء فلا نبات بدونولا تقدم بلا حريه .الشعوب هي البناءه فهل الفرعون ساهم في بناء الاهرام بغير قص شريط وهل صنع من الفخار سراجا واحدا انهم الناس .
محمد
الخميس، 10-03-2016 06:54 ص
الاستاذ حمزه لماذا الهجموم على دول الخليج وحصر الثقافه والعلم في بلدان معينه احب التوضيح لكم ان دول الخليج لها قوه وتنميه بشريه رائعه المجال يطول في ذكرها اما الدول صاحبه الثقافه التي ذكرتها فلازالت في نوم عميق وتستمتع بالاحلام واعتقد استاذنا ان ايفاقتها صعبه شكرا