تتقلب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير وتتجه الأمور نحو مزيد من التعقيد مبتعدة كثيرا عن مراكز الاستقرار القديمة، والباحث عن المحركات الاستراتيجية في المنطقة يلحظ أن النفط قد تصدر المحركات الأخرى كالسياسية والاجتماعية بل أضحى النفط بهبوط أسعاره الحادة هو المحرك الظاهر والخفي، فهو المحرك الاستراتيجي الظاهر بوضوح، حيث يلقي بآثار مباشرة.
وبلغة الأرقام فإن السعودية تنتج 10.19 مليون برميل يوميا وتنتج ايران 3.3 مليون برميل يوميا، بينما تنتج روسيا 10.15 مليون برميل يوميا وذلك حسب شهر سبتمبر 2015 (1). وتتربع السعودية على مخزون احتياطي يقدر بـ265.4 مليار برميل، وهذا يعادل 16.1 % من الاحتياطي العالمي(2). وتحتاج السعودية إلى أن تبيع النفط بسعر 100 دولار تقريبا لتحقيق التعادل مع مصروفاتها، بينما تحتاج ايران إلى أن تبيع البرميل بسعر 130 دولارا، وروسيا إلى اكثر من 100 دولار حسب الشكل أدناه (3). وتقدر الأصول الأجنبية التي تملكها السعودية بحدود 737 مليار دولار (4) أي ما يعادل 2.76 تريليون ريال على سعر 3.75 للريال السعودي مقابل الدولار .
وفي ظل هذه الأزمة فقد بدأت دول الخليج العربي بتبني سياسات تقشف جادة لتفادي احتمالية انزلاق أسعار النفط نحو العشرين دولار أو أقل، لمحاولة التعامل مع الانخفاض الحاد في إيراداتها. وبناء عليه فمن المتوقع أن توقف دول الخليج التوظيف من العمالة الوافدة أو تخفضه للحد الأدنى وللضروري فقط، ومن المتوقع توقيف المشاريع الجديدة أو التي في طور المناقصة، أضافة إلى ضغط أو تقليص المشاريع الموجودة أو إعادة تحديد نطاق عملها (scope).
ومن المتوقع أن يضعف السوق وتضعف القوة الشرائية معه، مع احتمالية وقف الخدمات المجانية للمواطنين كالكهرباء والماء، ومن المتوقع تقليص المساعدات الخارجية مع احتمال اللجوء إلى الصناديق السيادية لتغطية العجوزات. وقد تتطور الأمور نحو ركود اقتصادي إذا استمر تدهور سعر النفط.
الانعكاس على دولة قطر
أعلنت قطر موازنة عام 2016 بعجز مقداره 46.5 مليار ريال. حيث تقدر الإيرادات بـ: 156 مليار ريال، والنفقات بــ 202.5 مليار ريال وذلك على سعر: 48 دولارا للبرميل، ومن المتوقع تغطية العجز بإصدار سندات في الأسواق المحلية والعالمية، كما قلصت قطر توقعاتها للنمو الاقتصادي لعام 2015 إلى 3.7 بالمئة من 7.3 بالمئة كانت قد توقعتها في يونيو حزيران وعزت ذلك إلى التأثير الناجم عن هبوط أسعار النفط (5).
وتتضمن الميزانية 49.5 مليار ريال للرواتب و 58.5 مليار ريال للمصاريف التشغيلية و 90.8 مليار ريال للمشاريع و 3.7 مليار للمصاريف الرأس مالية (6). وإذا كان دخل قطاع البترول والغاز يمثل 70% تقريبا من مجمل الدخل القطري، فإن خفض سعر البترول من 48 دولارا حسب السعر المعتمد لميزانية 2016 إلى 34 دولارا حاليا يعني أن العجز سيزيد ليصبح بحدود 78 مليار ريال بدلا من 46.5 مليار ريال. وهذا سيدفع باتجاه المزيد من التقشف من خلال الضغط على المصاريف التشغيلية ووقف التوظيف والمشاريع الجديدة وتخفيض المساعدات الخارجية. علما بأن الثروة السيادية لقطر تقدر بـ 250 مليار دولارا (7).
الانعكاس على السعودية
أعلنت السعودية عن عجز قدره 326 مليار ريال سعودي حيث أن الواردات 513 مليار ريال والمصروفات 840 مليار ريال (8). علما بأن السعر المطلوب لإحداث التعادل مع المصاريف يقارب 100 دولار للبرميل. وتنتج السعودية ما يعادل 10 مليون برميل يوميا ويشكل النفط 90% على الأقل من مجمل الإيرادات السعودية. وبنفس الطريقة فإن العجز الكلي سيرتفع ليتجاوز 420 مليار ريال إذا استمر سعر البترول في بدايات الثلاثين دولارا. وسيُحدث هبوط الأسعار خللا كبيرا خصوصا إذا انخفض سعر البترول عن عتبة الثلاثين دولارا مع وجود معركة مفتوحة في اليمن إضافة إلى معركة قد تفتح في سوريا حسب تطور الأحداث الأخير.
وبما أن النفط يشكل 90% على الأقل من الإيرادات فإن استمرار انخفاض النفط أو بقائه بحدود الثلاثين دولارا سيشكل خطرا كبيرا على المدى المتوسط أي في حدود خمس إلى سبع سنوات القادمة. وهناك سؤال حرج يتردد وهو: هل ممكن أن تصل السعودية إلى مرحلة الإفلاس؟
هذا السؤال الحرج يصعب الجزم فيه ولكن يمكن الحوم حوله لتنبئ الإجابة، علما بأن هذا النمط من الأسئلة يحتاج إلى العودة إلى الأرقام وربطها بالمحركات الاستراتيجية الأخرى، ثم محاولة التوقع بما سيكون عليه الحال. تنتج السعودية من النفط حوالي 10 مليون برميل يوميا وتستهلك محليا ما يعادل 2.8 مليون برميل. وتملك السعودية احتياط مالي يقدر بحوالي 737 مليار دولار أمريكي (ما يعادل 2.76 تريليون ريال سعودي). وقد أعلنت السعودية عن عجز مقدراه 326 مليار ريال لعام 2016 ومن المحتمل أن يتعدى العجز سقف 400 مليار ريال في ظل الأوضاع الحالية.
وفي حال استمرار ربط الريال السعودي بالدولار فإن السعودية ستضطر لدعم الريال للمحافظة على قيمته مقابل الدولار الأمريكي الذي يشهد صعودا مقارنة بالعملات الأخرى. علما بأن الربط تم عام 1984 ويستوجب ربط العملة تثبيت سعر الدولار بالنسبة للريال، وبالتالي تحمل التكلفة والأعباء المالية للضغوط والتبعات المترتبة على ذلك. وليس من المتوقع فك الارتباط بين العملتين في المستقبل القريب، حيث أكد محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور فهد المبارك بتصريحه، في الحادي عشر من يناير لهذا العام (2016)، على أن الموقف الرسمي لمؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) هو التمسك بالحفاظ على ربط الريال السعودي على نفس المستوى 3.75 ريال للدولار، مدعوما بكل الأدوات السياسة النقدية بما في ذلك احتياطيات النقد الأجنبي (حسب الموقع الإلكتروني الرسمي للمؤسسة).
ومع عدم إغلاق جبهة اليمن المشتعلة منذ مارس 2015 إلى الأن، مضافا لها احتمالية فتح جبهة أخرى في سوريا، فإن ذلك يزيد الضغط على الموازنة السعودية باتجاه زيادة الإنفاق العسكري دافعا بمزيد من العجز.
وبالتالي فيمكن التنبؤ بأن الاحتياط السعودي ممكن أن يكفي السعودية لمدة سبع سنوات تقريبا تحت شرطين. الأول، بقاء الأسعار على ماهي عليه حوالي 30 دولار للبرميل. والثاني، أن تبقى الأوضاع السياسية على ما هي عليه أي بمعنى آخر تجميد السعر الحالي مع عدم حدوث تغيرات استراتيجية معتبرة في غضون السنوات القادمة.
إلّا أن الأمر أكثر تعقيدا على أرض الواقع، فبقاء السعر على ما هو عليه بحدود 30 دولارا للبرميل قد يتغير ليصل إلى حدود العشرين دولارا أو أقل، وممكن إذا حدثت متغيرات أخرى أن يرتفع، ولكن المؤشرات الحالية لا توحي بارتفاع الأسعار بل من المتوقع أن يهبط تحت العشرينات. وفي حال عدم ترويض الدب الروسي فقد يتم اتخاذ القرار الحرج وهو تخفيض السعر إلى حدود العشر دولارات للبرميل.
إن بقاء الأمور على ما هي عليه أمر مستبعد خصوصا في البيئة المعقدة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط. إذا احتمالية أن تصل السعودية إلى حد الإفلاس لها نصيب معتبر في مثل هذه الظروف من الاضطراب وزيادة النفقات العسكرية وانخفاض سعر النفط واستمرار دعم الريال لتثبيت سعره أمام الدولار، حتى ولو قامت الحكومة السعودية باتخاذ إجراءات وقائية مثل فرض ضرائب على السجائر والمشروبات الغازية وغير ذلك، أو استثمار ملايين الأمتار في مكة أو شمال جدة أو غيرها من المناطق؛ إذ أن العائد من مثل هذه الإجراءات لا يشكل تعويضا معتبرا لسببين. الأول: أن هذه الإجراءات ذات مردود محدود أمام عجوزات تصل إلى مئات المليارات من الريالات. والثاني: أن بعض هذه الإجراءات وخصوصا استثمار الأراضي يحتاج لصرف عدة مئات من المليارات كبنى تحتية لتصبح هذه الإجراءات منتجة.
الانعكاس على روسيا
تنتج روسيا ما يعادل 10 مليون برميل يوميا وتستهلك محليا ما يعادل 3.2 مليون برميل يوميا. ويقدر تكلفة إنتاج البرميل (التكلفة الاستثمارية مع التشغيلية) ما يعادل 17 دولار للبرميل، وتحتاج روسيا لسعر 100 دولار للبرميل لتحقيق التعادل مع المصاريف. ويشكل النفط 65% من صادراتها ويمثل 50% من مجمل الإنتاج المحلي الذي قدر بحدود 1.8 تريليون دولار لعام 2014 حسب البنك الدولي مع توقع انكماش بمقدار 3.8% في عام 2015. وبالتالي فإن انخفاض سعر النفط سيُلقي بظلال سلبية كبيرة على الوضع الروسي.
وإذا ما أضيف لذلك تدهور وضع الروبل الذي انخفض حتى تاريخه بمقدار 60%، مترافقا مع عقوبات اقتصادية مفروضة عليها منذ ضم شبه جزيرة القرم فإنه من المتوقع أن ينخفض احتياط المال الأجنبي لدى روسيا ليصل إلى 280 مليار في الربع الأول من عام 2016 . كل محصلة ذلك مجتمعا يضع القيادة الروسية في مشكلة حقيقية ستُحدث انعكاسا سلبيا على الداخل الروسي وعلى وضع النظام الحاكم. بل أن بعض التحليلات تذهب إلى أن سبب هذا الانخفاض الحاد في أسعار النفط من أجل إيصال روسيا إلى حد ينهار فيها اقتصادها كما حدث مع الاتحاد السوفيتي السابق.
وتقول روسيا أنها تستطيع أن تتحمل الانكماش وتمتص الآثار السلبية على الاقتصاد الروسي في ظل سعر 30 دولارا للبرميل. إلا أن الانخفاض في أسعار النفط يأتي في ظل التدخل الروسي في سوريا، حيث اندفعت روسيا في نهاية شهر سبتمبر 2015 نحو مناورة بعيدا عن حدودها لتتدخل في سوريا بعد أن قامت بمغامرة سابقة نتج عنها ضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا. والمتفحص لهه المناورة في سوريا يجد أن الأهداف الحقيقية ليست من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية بل على العكس فهي ذات تكلفة مالية كبيرة، وليس المقصد منها تحقيق مكاسب سياسية داخلية حيث أن بوتين يغامر بمستقبله السياسي في حالة الفشل.
وبالتالي فإن المقصد الواضح هو تحقيق مكاسب جيوستراتيجية تتمثل في إثبات أن روسيا لاعب جيوستراتيجي أساسي مستغلا ضعف الاقتصاد الأوروبي وحالة الانكفاء الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط، ومن أجل كسب ورقة قد تكون مناسبة للمقايضة على شبه جزيرة القرم، إضافة إلى حماية القاعدة البحرية في سوريا وإنشاء قاعدة جوية أخرى خصوصا أن روسيا لا تملك أي منفذ على المياه الدافئة. صحيح أن القيادة الروسية ميزت منذ البداية بين التدخل والتورط، باعتبار أن التدخل محدود بينما التورط يعني الزج بمزيد من القوات الروسية والتواجد العسكري المعتبر على الأرض.
إلا أن التطورات الأخيرة في سوريا والعناد الروسي يدفع روسيا دفعا نحو الحافة. بمعنى آخر نحو الانزلاق في تورط حقيقي حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها السعودية والغرب لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا التوغل الروسي في العمق الجيوستراتيجي الأمريكي. ومن ثم ماذا لو اُتخذ القرار بخفض السعر إلى ما دون العشرين دولارا أو الوصول إلى سعر العشرة دولارات للبرميل، عندها إما أن ينهار الاقتصاد الروسي، أو يحدث اضطراب داخلي يطيح بالنظام الحاكم، أو يندفع بوتين إلى التورط في مغامرة عسكرية تهيئ لحرب عالمية جديدة.
الانعكاس على إيران
إن الاتفاق النووي مع الغرب ورفع العقوبات عن إيران مصحوبا بالانخفاض الحاد في أسعار النفط سينعكس ليس فقط على الاستراتيجية الإيرانية الخارجية بل سيلقي بظلاله بشكل كبير على الصراع الإيراني الداخلي. لقد استطاع الإصلاحيون وبكل جدارة إخراج إيران من انهيار محقق نتيجة العقوبات التي كانت مفروضة مع تدهور أسعار النفط، ولكن كان ذلك مقابل ثمن معتبر وهو إنهاء المشروع النووي العسكري الإيراني، أو على أقل تقدير إغلاق مستقبله.
هذا الثمن دفع بالخصام بين المحافظين والإصلاحيين إلى ذروته وسيزداد هذا التفاعل الداخلي مع اقتراب موعد الانتخابات الإيرانية وستشهد الساحة الإيرانية الداخلية مزيدا من الاستقطاب الداخلي، ما سيضعضع قبضة المحافظين.
أمَّا بالنسبة للنفط، فإن إيران ستعمل على زيادة إنتاجها لتحصل على إيرادات ليتم صرفها على شراء طائرات جديدة وصيانة مصافي النفط وإصلاحات في البنى التحتية الداخلية وتحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين الإيرانيين.
إلا أن المشكلة تكمن في أمرين. الأول: إن زيادة الإنتاج يتطلب صيانة المصافي الإيرانية وخطوط الإنتاج حيث تقدر قيمة هذه الصيانة بخمسمائة مليار دولار. والأمر الثاني: أن أسعار النفط منخفضة جدا وبالتالي مهما زادت إيران من إنتاجها في ظل المصافي والمعدات الحالية فإن السعر المنخفض في النفط قد لا يلبي الاحتياجات الإيرانية. فعلى إيران في ظل السعر الحالي أن تضاعف إنتاجها لتحصل على نفس الدخل عندما كان النفط بستين دولارا وليس من الممكن مضاعفة الإنتاج النفطي الإيراني من خلال المصافي والمعدات الحالية.
وتعد إيران الرابعة في العالم من حيث الاحتياط النفطي، حيث تتربع على 158 مليار برميل، وقد كان إنتاجها من البترول ومشتقاته 3.3 مليون برميل يوميا تقريبا في عام 2014 وقريبا منه في عام 2015. تستهلك إيران محليا 1.9 برميل يوميا، وسعر التكلفة يقدر بـ 12 دولارا للبرميل. وتعمل إيران على زيادة إنتاجها بما يعادل 500 ألف برميل يوميا، وهذا يعنى زيادة المعروض في السوق أو في أحسن أحواله تعويضا لجزء من البترول الصخري الذي ينخفض إنتاجه بشكل كبير بسبب تكلفته الزائدة عن السعر الحالي للبترول العادي، وآخذا بعين الاعتبار الإنفاق العسكري الخارجي لإيران في سوريا والعراق، وعلى حزب الله والحوثي في اليمن، إضافة إلى نفقات الحرس الثوري في بلدان أخرى. وبالتالي فمن غير المحتمل أن تكون هذه الزيادة في الإنتاج ذات فائدة جوهرية لإيران، خصوصا إذا انخفض سعر البترول إلى دون مستواه الحالي.
إن النفط كمحرك استراتيجي ظاهر وخفي في هذه البيئة المعقدة، التي يصعب فيها التنبؤ المتوسط والبعيد المدى، ويصعب فيها الجزم والتوكيد على اتجاهات تطور الأمور لحري أن يدفع بالاستراتيجيين والسياسيين في الدول المعنية نحو الحكمة والدراسة الدقيقة في اتخاذ القرارات السيادية. فبمقدار القدرة على التكيف، والقدرة على المسح النشط للبيئات الداخلية والخارجية، والمرونة في التموضع، والكفاءة في توقع السيناريوهات وتحليل تحركات اللاعبين أصحاب النفوذ ، والمحافظة على موضع مالي معقول في خضم هذه التقلبات، بمقدار ما يسهل توجيه دفة السفينة في هذا الأمواج المتلاطمة في المرحلة الحالية.