جاء يوم، خلال الأسبوع الماضي، كان الوضع الميداني في مناطق ريف حلب الشمالي كالآتي: الطائرات الروسية تقصف مواقع المعارضة على مدار الساعة، متجنِّبة مواقع مجاورة لتنظيم "
داعش"، فيما كان هذا الأخير يهاجم أيضا المعارضة بالتزامن مع هجمات من قوات "وحدات حماية الشعب" الكردية ترفدها أعداد من مقاتلي ما تسمّى "قوات سورية الديموقراطية"، ومن جانب آخر كانت بعثة رمزية تابعة للنظام تواكب ضباطا وجنودا من "الحرس الثوري" الإيراني ومقاتلين من ميليشيا "حزب الله" اللبناني وميليشيات عراقية وأفغانية في هجوم ضخم ضد فصائل المعارضة...
سبعة أطراف، بما فيها روسيا و "داعش"، تلتقي ضد هدف واحد: تصفية المعارضة وإنهاء ثورتها على نظام بشار الأسد. ولا يحرّكها التقاء المصالح فحسب، بل ارتباطها جميعا بمحرّك أرضي واحد: إيران. لكن ما جعل هجماتها وتقدّمها ممكنين، هو عنصر حاسم واحد: طائرات روسيا. وقد تمتّعت هذه الطائرات وتلك الهجمات بغطاء ديبلوماسي قوامه القبول الأميركي بـ"سحق" المعارضة عسكريا كي يمكن سحقها سياسيا. فباراك أوباما، مثل فلاديمير بوتين، لم يقتنع يوما بأن هناك شعبا ثار للتخلّص من الظلم والاستبداد، بل انشغلا معا في إدارة الصراع واستكشاف إمكانات استغلاله، أوباما لتسهيل التوصل إلى اتفاق نووي وقد حصل عليه، وبوتين للبحث عن مساومة يخرج منها رابحا في... أوكرانيا ولم يحصل عليها بعد.
وفي هذه المساومة يعرض بوتين رأس الأسد لكنه يطالب بثمنه، مدفوعا مسبقا. "ثمن الأسد" ليس في سورية بل خارجها، ووفقا لمسؤول أوروبي بارز فإن لبوتين أربعة مطالب: الاعتراف بضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، تسوية غربية - روسية لتقاسم أوكرانيا، اتفاق حصري على تزوّد أوروبا بالغاز الروسي، ورفع العقوبات الأميركية والأوروبية. ويمكن إضافة مطلب خامس يتعلّق باستجابة شروط روسيا على مشروع "الناتو" نشر درع صاروخية في أوروبا... لم تستجب أمريكا وأوروبا لمطالب بوتين، ولو كانت الحرب متاحة في أوروبا لكان سارع إليها بلا تردد، بالنظر إلى أهمية أوكرانيا استراتيجيا لروسيا.
قبل أن تصبح العقوبات أكثر إيلاما، رأى بوتين الالتفاف على مأزقه بالذهاب إلى حرب في سورية واستخدامها للضغط والتصعيد استدراجا للمساومة. لكنه لمس أن ليس لدى الغربيين في سورية ما يقايضون به في أوكرانيا، حتى أنهم وافقوا على بقاء الأسد، بل لم يهتموا لتهديده بالإجهاز على المعارضة. قال للروس إنه ذاهب إلى ضربة استباقية لإرهاب "داعش" قبل استفحاله ووصوله إلى موسكو، لكنه استهدف المعارضة، ثم راح يستفز
تركيا ليتحرّش بـ"الناتو"، ارتكب جرائم تطهير عرقي، ضاعف أعداد اللاجئين لإقلاق الأوروبيين، نسف مفاوضات جنيف ومزّق القرار 2254، مؤكّدا توجّهه إلى حل عسكري، ثم أرسل وزيره إلى ميونيخ حاملا عرضا لـ "وقف إطلاق النار" علَّه يسمع من نظيره الأميركي ولو تلميحا بصفقة ما في شأن أوكرانيا والعقوبات. وبعد تفاوض ماراثوني، ظهر جون كيري وسيرغي لافروف ليلا ليقولا أن لديهما "اتفاقا"، وليعاودا الظهور نهارا فيقولا أنه "اتفاق" غير قابل للتطبيق.
على رغم هول المأساة الإنسانية، والقتل العلني المباشر والدمار غير المسبوق، ليست هناك اليوم أي مرجعية دولية يمكن أن تُستحثّ للنظر في جرائم الاحتلال الروسي لسورية. أصبح بوتين شريك الأسد في جرائمه بل تجاوزه. وكما سكتت واشنطن على جرائم النظام وإيران، فإنها لا تضيق الآن بارتكابات روسيا. هكذا كان منطق/ لا منطق النظام الدولي دائما، ولطالما اعتبرت روسيا خلال الأعوام الخمسة الماضية أنها في صدد "إصلاح" هذا النظام، وأسهبت في انتقاد السياسات الأميركية وتجريمها، إلا أنها في تجربتها السورية بدأت من أسفل المستنقع الأميركي.
هذه مرحلة تفجّر التناقضات والمصالح والأكاذيب في أكثر لحظات المحنة السورية خطورة، فالأوراق والأدوار اختلطت إلى حدّ تساوي نظامين مارقين في سورية وإيران مع دولتين كبريين في دفع الأزمة إلى الفوضى والانسداد... بل إلى أجواء "حرب عالمية" أو "حرب باردة جديدة". وإذ تبقى المسؤولية أولا على عاتق واشنطن وموسكو، فإن الوضع السوري بات صادما في إظهار تواطؤهما أو "تفاهمهما" على الأهداف، ثم في توظيف هذا التواطؤ لمصلحة نظامَي الأسد والملالي، لتكون المحصلة استعدادا لتفكيك سورية ولقتل شعبها وتبديد قضيته. هذه ليست مجرد لعبة مصالح، بل هي جريمة العصر بتوقيع دولتين عُظميين لم تتعلّما شيئا من تبعات أخطائهما في أفغانستان، ولا من دروس العراق وليبيا والصومال. والمؤكّد أن الأخطاء التي ترتكبانها، في ما تسمّيانه بحثا عن نهاية للصراع في سورية، تمهّد لتصدير الصراع إلى مجمل الإقليم، في انقياد أعمى وراء "التحالف الشيطاني" بين الشحن المذهبي الإيراني والإرهاب "الداعشي".
لم يعد سرّا أن الأميركيين سلّموا بفكرة استبقاء بشار الأسد، تأسيسا على أن تدخّل الروس جاء لحسم الموقف الميداني لمصلحته، والحجة المعلنة من الجانبين هي الحفاظ على الدولة ومؤسسات الجيش والأمن.
لكن هذه كانت الكذبة التي استند إليها الروس والأسد والإيرانيون، وقد غذّتها أمريكا ولمّعتها لتعترف في نهاية المطاف، وبسذاجة مصطنعة، بأن الخيار ضاق جدا: فإمّا الأسد وإمّا "أبو بكر البغدادي". لم تسأل مَن صنع "البغدادي" لأنها تعرف، ولا مصلحة لها في كشف الحقيقة. كانت تقول وتكرّر أن الأسد هو الإرهابي الأول، ثم تبنّت النتيجة التي قالها الأسد وكرّرها: هذا شعب من الإرهابيين. وهكذا سلّمت أمريكا أيضا بضرب المعارضة، معتدلة أو غير معتدلة، مدنية أو مقاتلة، على أيدي الروس أو سواهم. غضّت النظر عن وجود إيرانيين وعراقيين ولبنانيين وأفغان وباكستانيين، ولم تستسغ وجود مقاتلين سوريين على أرضهم في "جيش الإسلام" أو "أحرار الشام".
اتّضح الآن أن أوباما وإدارته وجنرالاته لم ينزعجوا من جرائم الأسد وشبّيحته، ولا من مجازره وبراميله واستخدامه السلاح الكيماوي، ولا من اقتلاع السكان وإفراغ المدن والبلدات، ولا من تدخلات إيران وميليشياتها... بل كان شعب سورية مصدر الإزعاج الوحيد لهم.
عمليا، كانت واشنطن حسمت أمرها بتسليم سورية إلى نظامَي روسيا وإيران، المشابهَين لنظام الأسد، وتوقّعت من حلفائها، لا سيما السعودية وتركيا، أن يستسلموا لهذا الواقع، وأن يتفرّجوا على الأسد والإيرانيين وهم يحاربون "داعش" بعدما صنعوه واستخدموه إلى أن انتهت صلاحيته، بل توقّعت أن يقبل حلفاؤها بإخراجهم من المعادلة السورية.
لم تلتفت أمريكا إلى التداعيات السيئة لخيارها، لم تعِ أنها تساعد إيران على تصدير الاضطراب إلى عموم المنطقة. فسلوكها في ما سمّته حربا على الإرهاب، أو على "داعش"، يُظهر أنها كانت تقيّد حلفاءها الإقليميين وتضلّلهم، إلى أن ينجح الروس في إيصال قوات النظام والميليشيات الإيرانية لمؤازرة أكراد "وحدات الحماية" ومقاتلي "قوات سورية الديموقراطية" في دخول الرقّة. وعلى رغم استعداد السعودية والإمارات وتركيا لإرسال قوات برّية لمقاتلة "داعش"، واصلت واشنطن التلكؤ في دعم هذه المبادرة، فهي لا تمانع في سورية ما تستبعده في العراق، حيث رفضت دخول ميليشيات "الحشد الشعبي" الشيعية إلى مناطق السنّة.
يخفي صمت واشنطن فيما التوتر الإقليمي يتصاعد على نحو خطير، أن التواطؤ مع روسيا وإيران بلغ حدّا من التهوّر يتخطّى تجاهل مصالح السعودية وتركيا إلى التآمر الفجّ على هذين الحليفين ودورَيهما. أكثر من ذلك، هناك مبالغة فادحة في السعي إلى إلغاء الشعب السوري، خصوصا بعد انكشاف أن القوة البرّية (
الأكراد والملتحقين بهم) التي سلّحتها واشنطن وعوّلت عليها ضد "داعش" إنما هي نقطة التقاء الأميركيين والروس والأسد والإيرانيين. فاللافت في أحداث الأيام الأخيرة، أن هذه القوّة تركت الجبهة مع "داعش" لتدعم الهجوم الروسي - الأسدي - الإيراني على فصائل المعارضة.
(عن صحيفة الحياة ـ 18 شباط/فبراير 2016)