منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 وحتى الآن؛ يدور جدل شديد حول الشرعية ومفهومها، ولم تسلم حتى صفوف رفض الانقلاب من هذا الجدل، كان ذلك في صفوف الثورة أو في صفوف المعارضة المستأنسة. ومع ظهور بعض الأصوات الداعية للتصالح، بل للاستسلام، وجب علينا أن نناقش بالتفصيل مفهوم الشرعية.
لا توجد طرق متعددة للتعامل مع الواقع في
مصر، بل طريقان ينطلقان من تعريف الوضع: هل في مصر نظام فاشي أقام قواعده على انقلاب دموي؟ أم أن في مصر نظاما ديكتاتوريا استغل عدم إدراك الشعب؟
والإجابة على ذلك تتوقف على موقف المجيب. ويتصور البعض أن الأمر يفصل مؤيدي مرسي عن معارضيه، وهذه سطحية في التصنيف. فالإجابة عن هذا السؤال ليس لها أي علاقة بالموقف من شخص الدكتور مرسي، بل هي مرتبطة بالموقف من الديمقراطية، ومدى فهمنا لها، ومدى قناعتنا بضرورتها للوطن وللمواطن. ولذلك تجد أنه في صف الدكتور مرسي من لا يؤمن بالديمقراطية ولكنه يصر على عودة الدكتور مرسي، وتجد في صف معارضي الدكتور مرسي من يؤمن بالديمقراطية ويصر على عودته.
وضمن المعسكرين الكثير من المتأرجحين الذين قد يؤخرون قضية عودة الدكتور مرسي، أو الشرعية ظنا منهم أن تأخيرها قد يجمع بعض طوائف الشعب لإسقاط النظام وإنقاذ مصر من الهاوية والانقسام. وتجد من يصر على عودة الدكتور مرسي، عودة الشرعية المسلوبة مهما كان الثمن.
وحقيقة الأمر ليست في عودة الدكتور مرسي أو عدم عودته، بل الأمر هو إكمال الثورة أو القبول بالعودة لعصر مبارك. والثورة ليست القضاء على السيسي أو عودة لـ 11 شباط/ فبراير، بل الثورة أكثر من ذلك بكثير، الثورة تكمن في تحقيق انتصار ساحق على الأنانية السياسية التي نتمتع بها، ونسعى لحمايتها في كلا المعسكرين.
فالثورات في القرن الماضي كانت عملية تغير، تغير النظام القائم بآخر ثار عليه، ودائما ما تحل أيدولوجية محل سابقتها. فمن قام بالثورة وانتصر يحكم ويُسلم له الشعب أو يستسلم له، لأنه صاحب الثورة والتضحيات وصاحب المشروع الذي دائما يعد بمستقبل أفضل.
وقد اختلف الأمر، وأصبحت الثورة لا تنتسب لأيدولوجية واحدة، وإن حلمت بالحكم فهي لا تضمنه، ولا يحق لها أن تحكم مميزة عن غيرها بما قدمت من تضحيات أو بانتصار لها فضل فيه، بل إن الثورة تثور وتنتصر وتسلم الأمر للشعب ليختار من يحكم. لقد أصبحت الثورة هي ثورة لتحقيق الديمقراطية للشعب، وهو الوحيد صاحب الحق في اختيار المشروع الذي يقوده لمستقبل أفضل. وهكذا كانت ثورة يناير 2011، ثورة على نظام مستبد، واختار الشعب لفظ العديد من النخب التي تصورت أن لها الحق في الحكم.
ولذلك فإن استكمال الثورة هو استكمال الاختيار بإيجابياته وسلبياته، ولكن مع تمكينه من استكمال الثورة، أي تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهذا لن يتحقق إلا من خلال:
- تفكيك أواصر الدولة الفاسدة (الدولة العميقة) وهذا ما كان يحب أن يفوض الشعب من انتخبهم لتحقيقه. وللأسف بدلا من ذلك، فوض الشعب المنقلب لتدمير ثورته (تفويض ضد الإرهاب المحتمل).
- تحقيق العدالة الانتقالية التي بموجبها يحاسب الفسدة والقتلة وكل من أجرم في حق الشعب، وهذا ما كان يجب أن يعين الشعب من انتخبهم لتحقيقه، وللأسف بدلا من ذلك ثار جزء من الشعب عليهم حين تصوروا أنه بإمكانهم تحقيق ذلك. (تظاهرات ضد تحصين الرئيس لقراراته من بطش الدولة العميقة).
- إعادة هيكلة الشرطة، وذلك كاد أن يتحقق بعد انكسارها في
25 يناير، لولا عودة القبضة الحديدية يوم سكت الشعب عن مجزرة فض الاعتصامات (النهضة ورابعة).
- إخراج الجيش من المعادلة السياسية، وهو أمر حتمي لن ينصلح حال البلاد من غيره، وقد سقط قطاع عريض من الشعب في الفخ وأعاد الجيش للمعترك السياسي أكثر مما كان، بل ومكنه من صدارة الحكم. (تصور أن الانقلاب العسكري خلاص من حكم الإخوان).
إن تحقيق هذه الأمور هو إتمام للثورة، وتحقيق ذلك ممكن فقط بعودة الشرعية، ليس لأن الدكتور مرسي هو الوحيد القادر على ذلك، وليس لأن المجالس المنتخبة في 2011 و2012 كانت مثالية وثورية، وليس لأن دستور 2012 كان أحسن دساتير العالم، ولكن لأن كل ذلك مثل إرادة الشعب الخالصة للمرة الوحيدة في تاريخ مصر، ولأن ذلك سُلب بانقلاب عسكري، فعودته وتفعيله، وهو ما يسمى الشرعية، هو الطريق الوحيد لرد الأمور لنصابها الصحيح لأنه:
- هو بمثابة انكسار للدولة العميقة والثورة المضادة وهزيمة لذراع الشرطة القمعي.
- التمسك بالشرعية هو الطريق الوحيد لانعدام شرعية كل ما تم بعد 3 تموز/ يوليو 2013، وهو ما يسمح للشعب بإسقاط الاتفاقيات الماسة بالأمن القومي والضارة بالمستقبل والمبرمة عن طريق نظام غير شرعي.
- وإخراج الجيش نهائيا من المعادلة السياسية.
وفوق كل ذلك فعودة وتفعيل الشرعية يمثل الانتصار على الأنانية التي نتنفسها ليل نهار، وهو ما يحقق الترسيخ الحقيقي لمفهوم الديمقراطية، ونجاح الثورة على النفس، حيث يقبل الجميع بعودة الرئيس الشرعي اتفق أو اختلف معه، وأن يقبل الجميع بالعودة لمعارضة نظام شرعي من داخله بأدوات الديمقراطية المتوفرة في برلملن ليس بالأمثل، ودستور ليس بالأكمل، ورئيس ليس بالأكثر خبرة.
إن مطالبة البعض بالعودة لـ11 شباط/ فبراير هو قصور في فهم الديمقراطية، وقصور في الإلمام بمفهوم الثورة في القرن الحادي والعشرين، وعدم تخلص من الأنانية الأيدولوجية التي سمحت لفصيل أن يستقوي بالجيش ليهزم من فشل في هزيمته بالديمقراطية.
إن العودة لـ30 حزيران/ يونيو، هو عودة الوعي للشعب، ونضوج حقيقي، وهذا هو الدرس الأول في الديمقراطية، وهذا هو واجبنا أن نغذيه في وجدان المواطن، ولذا كان استمرار الثورة وعدم التفريط في الشرعية فرضا على كل مواطن، لا يقاتل في سبيله إلا من أدرك قيمته، فاستمر في ثورته على الانقلاب حتى يسقط وحتى تعود الشرعية. فعودتها هي عودة الوعي للأمة، وأول خطوة في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة.
* الأمين العام للمجلس الثوري المصري