في 14 شباط/ فبراير 1988، وبعد شهرين من انفجار الانتفاضة
الفلسطينية الكبرى، وتحديدا في ليماسول بقبرص، استشهد ثلاثة رجال، محمد محمد بحيص (أبو حسن قاسم)، ومحمد باسم سلطان (حمدي التميمي)، ومروان كيالي، وإن كنت تسأل عن سرّ الاسمين الأولين اللذين في الأقواس، فإنهما الاسمان الحركيان اللذان ظلا الأشهَر في الدلالة على صاحبيهما من أسمائهما الرسمية حتى اليوم.
أما إن كنت تسأل عن سرّ الشهادة في قبرص، فهذه الخاتمة الأليق بالمسيرة الأجمل، والتتويج الأتم لأماني مجبولة بالعمل الحثيث، وبعدما امتلأت عيونهم بالحقائق التي رفعوها على أكتافهم سنين طويلة، حتى تحولت من محض الأماني إلى الحقائق التامة، وإذا بالشعب داخل الأرض المحتلة في كانون أول/ ديسمبر 1987 الأصل الذي تأكد للصورة التي رسموها له في مخيلتهم الثورية أواسط سبعينيات القرن الماضي، وإذا بالداخل المحتل يتحول إلى مركز المقاومة، بعدما كان مركزها دول اللجوء، الأردن فلبنان، وإذا بالحركة الإسلامية في طليعة المقاومة الفلسطينية.
أبو حسن قاسم، وحمدي التميمي، ومروان كيالي، ثلاثة مقاتلين من حركة فتح، كوّنوا إلى جانب غيرهم، النواة القيادية لتيار غلبت عليه نظريا الأطروحة الماركسية الماوية، وإن كان قد كيّف تلك الأطروحة وأعاد تبييئها فلسطينيا وعربيا وإسلاميا، بما يتجاوز الطفولية اليسارية التي طبعت فصائل اليسار الفلسطيني في تلك الحقبة، بما فيها التيارات اليسارية داخل حركة فتح، بينما غلبت عليه عمليا نزعة المبادرة وتجاوز ظواهر الانشقاق أو الاستزلام التي عُرفت بها فتح، ويمكن التأريخ للبداية النظرية لهذا التيار بالسجال اليساري الذي دار على هامش أحداث أيلول وخروج الثورة الفلسطينية من الأردن، ولا سيما رد الأستاذ منير شفيق، منظّر التيار الأبرز، على جلال صادق العظم، فقد كتب الثاني "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية"، ورد عليه الأول بـ"الثورة الفلسطينية بين النقد والتحطيم".
وعمليا يمكن التأريخ للتيار بما عرف بأحداث أيار في العام 1973، حينما تشكلت نواة "السرية الطلابية" المنبثقة عن التنظيم الطلابي لحركة فتح، كمبادرة عملية من طرف الطلاب للتصدي لهجوم الجيش
اللبناني على مواقع المقاومة الفلسطينية الموجودة في منطقة الجامعة العربية في بيروت، وفي الأثناء بدأت السرية الطلابية تتميز عن بقية قوى الثورة الفلسطينية، والقوى اللبنانية الحليفة، بمسلكية ثورية خاصة، صادرة عن مفهوم "خط الجماهير" الماوي، الذي استمر التيار في تطويره وتكييفه وتبييئه، ابتداء من مسلكية أخلاقية نظيفة، وصولا إلى الإسلام الذي تحولت إليه مجموعات هامة من التيار.
لا يمكن في هذه المقالة، اختزال تجربة التيار بالغة الثراء، وقد كتبتُ في تجربته أطروحتي للماجستير، وظلت من بعد الأطروحة موضوعات هامة متعلقة بالتجربة جديرة بالدراسة المستقلة، كما أن التأريخ للتجربة واستيعاب كوادر التيار وشهدائه ومعاركه وإسهاماته وإنجازاته وتشظياته يحتاج إلى المزيد من التقصي والتوثيق والاستيعاب، هذا فضلا عن الأطروحات النظرية التي واكبت مسيرة التيار وتطوره وتحولاته، وتعلق التجربة بتحولات الحركة الوطنية الفلسطينية، والتحولات الإقليمية والعالمية، كالخلاف السوفييتي الصيني، وانهيار اليسار عالميا، والجهاد الأفغاني، والثورة الإيرانية، وصعود ظاهرة الإحيائية الإسلامية عربيا في سبعينيات القرن الماضي، وتعاظم دور الحركة الإسلامية فلسطينيا، وظهور المؤشرات الأولى على اتجاهها نحو المقاومة والعمل المسلح، ويبدو بذلك هذا التيار من أكثر تيارات الثورة الفلسطينية قدرة على ملاحظة التحولات بدوائرها المتعددة من الفلسطينية إلى العالمية، ومن أكثرها بصيرة وفاعلية.
استند التيار إلى عدد من المقولات الأساسية، وأبرزها "خط الجماهير" التي استفادها من التنظير الماوي، واكتشف من خلالها أن الإسلام هو خط الجماهير في بلادنا، وأنّ الثورة المشتقة من خط الجماهير، لن تكون إلا إسلامية بالضرورة، وقد سبقت مؤشرات تحولاته نحو الإسلام الثورة الإيرانية -كما يبدو في بعض أدبياته في العام 1976- حينما يرى في شهداء التيار روح الآباء العظام الذين قاتلوا في بدر وأحد، وفي القادسية واليرموك، وهي رؤية تبدو غريبة حينما تصدر عن تيار فلسطيني ذي طابع ماركسي، ولم يكن التحول عملياتيا كما سيأتي فحسب، بل قدم مادة نظرية هامة، في نقد الماركسية، كما في كتابات الأستاذ منير شفيق، ومن أبرزها في تلك المرحلة كتابه "الإسلام في معركة الحضارة"، أو في الكتيب الذي تركه الشهيدان أبو حسن قاسم وحمدي التميمي كخلاصة مراسلاتهم مع الأسرى في سجون الاحتلال وحمل عنوان "أسئلة حول الإسلام والماركسية من وراء القضبان".
وهذه السجالات وفضلا عن إسهامها النظري، فإنها تكشف عن طبيعة المثقف وموقعه ومسؤوليته في هذه التجربة، من جهة انخراطه الفعلي والميداني في النضال، ومعايشته الواقعية للجماهير، ومفاصلته شرنقة المثقف، مثقف المقاهي والأبراج العاجية، نفسيا وعمليا.
وإذا كان هذا التحول قد رفد الحركات الإسلامية بعدد من الكوادر والمقاتلين، كما في حركة التوحيد الإسلامية اللبنانية، وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ورفد حركات المقاومة الشيعية التي تشكلت مع خروج الثورة الفلسطينية في لبنان، فإنّه توج تحولاته بتجربة "سرايا الجهاد الإسلامي" التي دفعت نحو تفجير الانتفاضة الأولى، بعملها، وتعاونها مع المجموعات الإسلامية داخل الأرض المحتلة، وبنائها على عمليات الدوريات والجهود المكثفة التي قادها كل من أبو حسن وحمدي في المرحلة اللبنانية لإدخال المجموعات المقاتلة من لبنان إلى داخل الأرض المحتلة.
وكان من أشهر العمليات الناجمة عن هذه الجهود، عملية الدبويا في قلب مدينة الخليل في 2 أيار/ مايو 1980، بينما كان من أشهر عمليات "سرايا الجهاد الإسلامي" عملية حائط البراق، أو باب المغاربة في 15 تشرين أول/ أكتوبر 1986، وقد نفّذت بترتيب مشترك مع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ومحاولة تفجير مبنى رئاسة الوزراء الصهيونية بعملية استشهادية كان مخططا أن تنفذها المجاهدة عطاف عليان، بيد أن المجموعة كشفت واعتقلت عطاف عليان في 2 آب/ أغسطس 1987، أي قبل الانتفاضة الأولى بوقت قصير، وكان لافتا تعاون أبو حسن قاسم وحمدي التميمي مع الدكتور عبد الله عزام لتدريب عناصر المجموعة في أفغانستان، وتشير المصادر كذلك إلى إمداد سرايا الجهاد لمجموعة الشهيد مصباح صوري، من حركة الجهاد الإسلامي، بالسلاح بعد هروبها من سجن غزة في 17 أيار/ مايو 1987، وهي المجموعة التي قادت اشتباك الشجاعية الشهير في 6 تشرين أول/ أكتوبر 1987، أي على أبواب الانتفاضة الأولى.
ومن الأفكار الأخرى الأساسية التي استند إليها التيار، تقسيم التناقضات إلى رئيسية وثانوية، في استفادة من التنظير الماركسي، ولا سيما من التجربة الماوية، وهي الفكرة التي جنبت التيار صراعات حركة فتح، وركزت جهوده على محاولة الخروج من الحرب الأهلية اللبنانية والتفرغ للعدو الصهيوني، وساهمت في صياغة مسلكية ثورية تنفتح على قوى الأمة وجماهيرها، وبالذات الإسلامية منها، وأيضا في صياغة موقف نظري من موضوعة التضامن العربي، وتقييم الأنظمة العربية وطبيعة التناقض معها، بما يخالف في ذلك الحين المواقف الماركسية الكلاسيكية في الثورة الفلسطينية.
بيد أن من أهم المقولات التي صبغت التيار بطابع صوفي خاص، تمثل بإنكار الذات، والخروج من صراع الغنائم الداخلي، وهي المقولة التي ساهمت أيضا في صياغة مبادرة عملية لمواجهة حالة التردي في الحركة الوطنية الفلسطينية، كانت مقولة "العامل المساعد"، والتي جرى التعبير عنها بصيغ أخرى كـ"الحصوة التي تسند الجرة"، و"حمل كتف"، و"سد ثغرة"، و"المناضل الصلب في الموقع الصعب"، وقد نجم عن هذه المبادرة، ممارسة هامة للتيار عبر السرية الطلابية، في الحرب الأهلية اللبنانية، كان من صورها صمود السرية الطلابية، في معارك بحمدون في مواجهة القوات السورية، في تشرين أول/ أكتوبر 1976، حيث ساعد صمودها في توقيع اتفاق الرياض الذي أنهى القتال السوري الفلسطيني، وهيأ الظروف لنزول قوات الثورة الفلسطينية إلى جنوب لبنان.
كانت السرية الطلابية، أول قوات الثورة الفلسطينية نزولا إلى جنوب لبنان، وتحولت هناك إلى كتيبة نظامية في قوات العاصفة، وحملت اسم كتيبة الجرمق، وقدمت تجربة قتالية مميزة في مواجهة الاحتلال وعملائه، كما قدمت مسلكية ثورية منبثقة عن خط الجماهير متمايزة جدا عن سلوك بقية القوى الفلسطينية واللبنانية المتحالفة معها، ولا سيما في العلاقة بالأهالي، وعلى صعيد مواجهة الاحتلال يذكر للكتيبة دورها الكبير في اجتياحي العام 1978، والعام 1982، ومن ذلك ملحمة قلعة الشقيف، وتنظيمها للمقاومة داخل لبنان بعد الاجتياح الثاني.
وفي السياق ذاته، سياق "الحصوة التي تسند الجرة"، كان دور بعض كوادرها الهام في مواجهة حصار المخيمات كما مع الشهيد علي أبو طوق، الذي استشهد في حصار مخيم شاتيلا، وتنظيم عمليات الدوريات إلى داخل الأرض المحتلة، وإطلاق مشروع سرايا الجهاد الإسلامي، وإسناد المجموعات الإسلامية المسلحة الأولى، وتدريب كوادر كتائب القسام الأولى كما مع الشهيد ميسرة أبو حمدية الذي استشهد بالمرض داخل سجون العدو بين أسرى حركة حماس، ومن بركة التيار التي امتدت طويلا قيام بعض كوادره السابقين بتأسيس كتائب شهداء الأقصى، في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومنهم الشهيد مروان زلوم، والشهيد جهاد العمارين.
تجربة ثرية.. لن تكون المقالة إزاءها إلا قاصرة.