تلحُّ اتجاهات إسلامية عريضة القاعدة، واسعة الانتشار في أدبياتها وخطابها على عودة الخلافة بنموذجها التاريخي، مستندة إلى أحاديث تبشر بعودتها وفق سردية تقسم مراحل التاريخ الإسلامي إلى أربع مراحل، تأتي
البشارة بعدها بالمرحلة الخامسة المنتظرة "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة".
تُخبر الرواية التي رواها الإمام أحمد - وغيره - عن حذيفة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون...
أما البشارة التي أقيمت عليها الفكرة المركزية بعودة الخلافة، فتقول "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، ثم تتابع الرواية أنه لما ولي عمر بن العزيز كتب له حبيب – أحد رواة الحديث – "بهذا الحديث.. فقلت له: "إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر – بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسُرَ به وأعجبه".
فراوي الحديث أنزل تلك الإخبارات على وقائع مضت وانتهت، وأن البشارة الواردة فيه قد تحققت في عمر بن عبد العزيز، إلا أن الشيخ ناصر الدين
الألباني الذي صحح الرواية استبعد "حمل الحديث على عمر بن عبد العزيز لقربه من الخلافة الراشدة، ولم تكن خلافته بعد مُلكين عاض وجبري".
لكن الشيخ عبد العزيز بن باز، المفتي العام السابق للسعودية، خالف الشيخ الألباني بما نصه "أقول القاعدة إن تفسير راوي الحديث ورأيه مقدم على رأي غيره، لا سيما وأنه ليس في حكم شرعي، ثم الخليفة عمر أقره وسُر به، ولا يمنع تفسير المُلك العاض بخلافة معاوية بعد ولاية العهد لابنه، ويُفسر الملك الجبري بمُلك مروان بن الحكم وأبنائه ثم من جاء بعدهم".
الحديث رواية ودراية
خالف بعض المعاصرين المتخصصين في الحديث النبوي وعلومه الشيخ الألباني في تصحيحه للحديث، فقد ذهب إلى تضعيفه المتخصص الأردني في النقد الحديثي، خالد الحايك، على موقعه الخاص به "دار الحديث الضيائية"، فبعد نقده لرجال الحديث والكلام على طرقه المختلفة، حكم على الحديث بالضعف، لما فيه من نكاره، مشيرا إلى أن "تطبيقه على بعض الأزمان فيه خلاف".
ومن جانبه، خلص صلاح الدين الإدلبي، الباحث السوري المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، بعد دراسته المطولة لروايات الحديث وطرقه إلى القول: "خلاصة الأمر أن هذا الحديث بفقراته الثلاثة الأولى "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم تكون ملكا عاضا" صحيح بطرقه...
لكن الإدلبي اعتبر جملة (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) "مما يجب أن يُتوقف فيه، بسبب الشك في معرفة حال أحد رواة السند وتفرده بها". ما يعني تضعيفه لها وعدم نهوضها للاستدلال بها.
وفي السياق ذاته، ضعف الأكاديمي السعودي، عميد كلية الشريعة سابقا في جامعة الإمام محمد بن سعود، سعود الفنيسان، الحديث لوجود راويين ضعيفين في إسناده هما: "داود الواسطي، وحبيب بن سالم".
وانتهى الفنيسان بحسب بحثه الذي أرسل لـ"
عربي 21" نسخة منه إلى القول: "لا يصح إسناده كما بينّا، وإن صح فيحمل على خلافة عمر بن عبد العزيز وقد مضت، أو هي حكم المهدي أو عيسى بن مريم عند نزوله".
ومن جهته، ذهب الأكاديمي السعودي والباحث الشرعي، سعيد بن ناصر الغامدي، إلى القول بأن "الحديث المذكور فيه خلاف في هذه الزيادة (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، فمن العلماء من حسنه، ومنهم من حكم بضعفه للتفرد والشذوذ".
واعتبر الغامدي أن "عودة الخلافة بنحو ما كان عليه عهد الراشدين أمنية وطموح لتحقق أوصاف الإمامة في أشخاصهم، وفيمن يُرجى أن يكون مثلهم"، مؤكدا على أنه "مع الاحتفاظ بحق الأمة في وحدتها وحقها في نظام سياسي يلم شملها، ويوحد قوتها ويضم شتاتها إلا أن معطيات الواقع لا تساعد في هذا الأمل".
ولفت الغامدي في حديثه لـ"
عربي 21" إلى أن "الأمة منذ انفراط الدولة الأموية وصدر العباسية لم تتوحد تحت حكم واحد، وإن كان مسمى الخليفة واحد في عدة بلدان، ولكنها كانت ذات دول مستقلة.. ثم مع جثوم الحدود المصطنعة بين المسلمين، وبروز الدولة القطرية، وصيانة القانون الدولي لذلك، وحماية الدول الكبيرة له، أصبح الأمر صعب التحقق واقعيا ضمن هذه الأنساق المؤثرة والفاعلة".
واستدرك الغامدي متسائلا: "هل يعني ذلك إلغاء فكرة الأمة الواحدة ذات السيادة الشرعية؟ الجواب: لا"، منوها إلى إمكانية تحقق تلك الفكرة "عبر بدائل أخرى منها التحالفات الاندماجية، ومنها ما يسمى بالكونفدرالية".
فقه الضرورة وموانع الواقع
في ظل الأنساق المعرفية الحداثوية الشائعة، والأنظمة السياسية المعاصرة القائمة، ونمط العلاقات الدولية السائدة في عصرنا، ما هي إمكانية عودة
الخلافة على منهاج النبوة بنموذجها التاريخي؟
أجاب أستاذ العلوم السياسة في الجامعة الهاشمية، جمال الشلبي، إن تلك العودة ليست صعبة بل مستحيلة، واصفا ذلك النسق من التفكير بالخطأ الفكري والمنهجي، ويعكس قصر نظر في قراءة الواقع بمعطياته المختلفة.
وأوضح الشلبي أن طبيعة النظام الدولي القائم على الدولة الوطنية، وطبيعته المحكومة بقوانين منظمة الأمم المتحدة، والقانون الدولي الذي ينظم العلاقات الدولية، يحول دون تحقق ذلك التصور على أرض الواقع.
وأضاف الشلبي لـ"
عربي 21" طبيعة الدولة الوطنية تعني الاستقلال والسيادة، فكيف يمكن تصور وجود رجل واحد يحكم دول مختلفة، ذات قوميات وعرقيات مختلفة؟ فمن هو ذاك الخليفة في ظل الانفتاح المعرفي والذي باتت فيه الشعوب أكثر فهما ووعيا الذي سيحظى بالقبول من تلك الشعوب ذات الأعراق والقوميات المختلفة؟
وجوابا عن سؤال "
عربي 21" حول إمكانية تقويض القائم وإنشاء نموذج آخر على أنقاضه، قال الشلبي: "هذا صعب جدا لأسباب فكرية وسياسية، فالتيارات الإسلامية ليست متفقة على فكرة محددة، والنظام القائم يرفض وجود دول قائمة على الدين، لأن الدين (وفقا لأنماط التدين القائم) بات سببا في صراعات متعددة ومختلفة".
إذا كانت معطيات الواقع لا تُسعف في إمكانية قيام ذلك النموذج من الحكم، وفقا للغامدي والشلبي، فهل تلك القراءة التأويلية لنموذج الحكم في الإسلام، التي رفعت الخلافة إلى مستوى ثوابت الدين وقطعياته تعتبر هي التأويل الوحيد الذي يكون ما سواها فاسدا وباطلا؟
أوضح عايش لبابنة، عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة في جامعة اليرموك الأردنية، أن طبيعة نظام الحكم في الإسلام عبر ممارساته التاريخية لم تأخذ صورة واحدة ثابتة، بل ثمة صور متعددة أجازها الفقهاء في حينها، ربما كان بعضها بحكم الضرورة التي اضطروا معها لإجازة تلك الصور.
وتساءل لبابنة في حديثه لـ"
عربي 21"ما الذي يمنع فقهاء المسلمين في عصرنا من الاجتهاد لإجازة صور حديثة تجمع شمل الأمة عبر صيغ جديدة كالاتحاد الفيدرالي، دون الالتزام بالصيغة القديمة في نموذجها التاريخي؟
وردا على سؤال حول صحة الاستدلال بنصوص عامة تتحدث عن استخلاف المؤمنين وتمكين دينهم على استلزام عودة نظام الخلافة بنموذجه التاريخي المعروف، استبعد لبابنة هذا الاستدلال، ورأى أنه لا يلزم من تلك النصوص (مفهوم الاستخلاف والتمكين) عودة الخلافة بنموذجها المتحدث عنه.
تعكس هذه القضية مدى هشاشة الاستدلال بنصوص شرعية لا تنهض من حيث الثبوت والدلالة على إثبات دعوى عودة الخلافة بنموذجها التاريخي، وتكشف في الوقت نفسه عن عقلية الجمود على قوالب وصيغ باتت في حكم الماضي، مع قيام موانع عديدة على إمكانية تطبيقها وعودتها، ما يعني ضرورة التحرر من نزعة التقوقع والانغلاق على تلك الصيغ، والتحلي بالمرونة الاجتهادية القادرة على اجتراح صيغ جديدة تحقق مقاصد الشريعة في اجتماع الأمة ووحدتها.