الإضراب عن الطعام، نوع من أنواع الملاحم البطولية التي سجلت في تاريخ الشعب
الفلسطيني، هي ملحمة تبدأ فصولها داخل أسوار السجن فرادى وجماعات، سطرت كثيرا من الحكايات والأساطير على مدار سنين طويلة من الاعتقال، وصمدت الأمعاء الخاوية في المعركة التي دخلوها طوعا وكرها، لها في كل جولة من جولاتها فرسان ورجال.
قبل قرابة عامين إلا قليلا وفي شهر نيسان من عام 2014 خاضت مجموعة من الأسرى الإداريين إضرابا عن الطعام كان شعاره ماء وملح. يُبقي الأول الأسير على قيد الحياة، والثاني يقي المعدة من العفن.. جل المعتقلين تقدم بهم العمر وهم داخل السجن، وشابت رؤوسهم وهم على ذمة الاعتقال الإداري.
لكن إرادة الحياة أحيانا تخلق في الإنسان صفات ما له أن يكتشفها لولا قساوة المحنة وظلمة السجن، هي جملة من المؤهلات التي لا بد أن يمتلكها من أراد أن يكون واحدا من جنود المعركة، أو أراد وحده أن يكون الجندي والقائد في المعركة. لا بد أن يكون ذاك المقاتل شجاعا حتى ينتصر على أمعائه ويهزم جوعه قبل أن ينتصر على السجان، فإن لم يتحقق النصر الأول، فلا معركة أصلا ولا نصر، ولا بد أن يكون عنيدا يقاوم تهديدات سجانه بالإطعام قسرا، وعناده يواجه عدوين لدودين في هذه اللحظة، ضغط السجان وضغط الأمعاء التي تتوسله أن يستجيب لسجانه ويريحها من عناء الجوع والألم، هو صابر بلا حدود، ذو جلد وعزم لا يبالي بالألم ولا بوهن الجسد.
محمد القيق هو من يقود هذه الجولة من المعركة الطويلة، ولا أظنه آخر فارس كما لا أظنها آخر الجولات، حضر فيها بنفسه، وكثيرون كثيرون كانوا وما زالوا على قائمة الغياب، كما في كل مرة، حين لا تجدي استغاثة ولا ينفع معهم عتاب. محمد، حقا إنه بحاجة الى التضامن والتظاهر والنفير لشد أزره ومعه ذويه، هو بحاجة إلى كل أشكال التآزر والتعاضد والترابط، هو بحاجة إلى المظاهرة والمسيرة والقصيدة والكلمة التي تخفف عن ذويه الهموم والأحزان، ولكن تلك على أهميتها لا تشفع له أمام عدو مجرم يستلذ على عذابات البشر، لا لشيء إلا لأنهم بشر، وأمامه لا تشفع له مظاهرة أو وقفة تضامنية.
ليس الواجب الوطني فقط من يدفع إلى الدفاع عن محمد القيق، إنما الدين والأخلاق والحمية والعصبية والغيرة وكل ما يستنفر ما لدى الإنسان من شيء يمكن أن يقدم ويؤلمه الضمير إن تراجع أو استهان.
طريق الجوع والصمود والإضراب الذي اختاره لم يوصل بحد ذاته إلى بوابة الحرية، ذاك الطريق ما هو إلا إيذان لكل ذي شأن أن يتجه نحو كل الإجراءات الممكنة والمطلوبة تجاه الأسرى التي يمكن أن توقف الاعتقال الإداري، وتجبر الاحتلال أن ينصاع لمطالب الأسرى والمعتقلين.
إذن، فطريق محمد هي رسالة إلى...
الجماهير: لكي تعود إلى الساحات والميادين وتحيي قضية الأسرى من جديد، لأن قضية محمد ليست فردية والتعاطي معها ليس تعبيرا عن مجرد تضامن مع أسير مضرب عن الطعام، هي تعبير عن حالة نضالية فلسطينية، إحياؤها فيه بعث جديد لروح التضامن والانحياز لقضية الأسرى جميعا من كل ألوان الطيف الفلسطيني. لن تخرج الجموع تحمل صورة محمد فقط، هي صورة سجين خلفه سجناء وسجينات، من المدن والقرى والمخيمات، تعطي تلك الجماهير في هتافها وحشدها وعنفوانها وغضبها صورة نمطية يحن إليها وجدان وضمير وإحساس كل من دبت أقدامه على أرض فلسطين، هي صورة الوحدة الغائبة التي طال انتظارها.
المثقفين والكتاب: نعم وقع الكلمة كبير، وكل يقاوم المحتل بأدواته، كانت أداة محمد القيق أمعاءه وحياته، ولبني المحبرة والقلم ساحات أخرى، وفضاء كبير، في ظل المتاح اليسير الكثير من وسائل التواصل والمواقع الالكترونية، وهنا يتكامل الدور الإنساني التثقيفي الهادف مع الدور العاطفي الذي يغلب على غالب الأنشطة والفعاليات أثناء التعاطي مع هكذا حالات، خاصة من جانب الأهل والأقربين، لكن بين يدي الكتاب لا يكتفي التعامل مع محمد كحالة فردية بطولية فقط، إنما يتم النفاذ إلى العمق حيث جوهر القضية. الاحتلال عنوانه الأبرز في هذه اللحظة هو الأسر، وفي كل ركن من أركان الوطن له وجه بشع تراه حتى في ظلام الليل ولو كنت أعمى البصر، هنا يستجمع المثقفون والكتاب والأدباء والشعراء قواهم حول قضية محمد بغض النظر عن التجافي والتقارب مع انتمائه وفكره وقبيلته.
أما المؤسسات الحقوقية بجموعها ومسمياتها ومعها السلطة الفلسطينية فهي تعرف طريقها، ولعلها العنوان الأول الجدير بحمل هذه القضية إلى حيث تريد، في المحافل الدولية الإنسانية والحقوقية، وطرق أبواب المنظمات الدولية والإقليمية التي تستطيع أن تؤذي الاحتلال، في قضية قانونية امتلكت كل المسوغات التي تستطيع بها أن تطرق باب القضاء وحقوق الانسان، بل تجاوزت في إنسانيتها ما عرف في القوانين المواثيق الدولية أية حدود، لها رصيد من المواد والبنود والحيثيات في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية جنيف الثالثة التي تتحدث عن المدنيين تحت الاحتلال.
الجامعات: التي سجلت على مدار تاريخ النضال الفلسطيني القلب النابض والمصنع الذي يقدم الشهداء والقادة. وكم من أسير ما زال ينتمي إلى مقاعد الجامعة؟ وهنا يسجل الواجب الشخصي حضوره؛ لأن محمد ابن لتلك الجامعات الذي يحتفي أرشيفها بقائمة بدأت ولن تنتهي بعدُ بالطلبة الشهداء والأسرى الرواحل وآخرهم محمد.
الجماهير والجامعات والكتاب والأدباء والشعراء والسلطة وجمع غفير من المؤسسات والنقابات والاتحادات، حينما تراجع ما قدموا جميعا على مدار ستين يوما ويزيد، أمام حالة نضالية إنسانية، تدرك أن محمد وحده في الميدان، مع قليل من التعاطف والتضامن.
اليوم وكأن ما قاله غسان كنفاني قبل قرابة ستة عقود قد قيل لأجل محمد القيق وبحقه فقط، حين قال كنفاني: "الوقت ضيق، الشمعة الكبيرة على وشك أن تذوب، إن البكاء والحزن لا يحلان المشاكل".
فالوقت حقا ضيق لتعد أنفاس الأسير المُضرب، ولا يكسر القيد بالبكاء والحزن، ولكن أملي ألا تذوب الشمعة، وأملي ألا يقف أحد حائرا يوما ما أمام إسلام حين يُسأل بعد حين.. "أين أبي؟".