منذ فترة طويلة، وعائلات عراقية عديدة تقضي أيامها عند جسر "
بزيبز"، في الليل، تدخل النساء والأطفال إلى داخل حرم جامع ليباتوا فيه ليلتهم، بينما ينام الرجال خارجا في حديقته، وكلما ازداد برد الشتاء، ازدادت معاناتهم وتأزّمت مشكلتهم.
ليس الشتاء وحده هو المشكلة؛ إذ إن الأعداد بازدياد، فهناك عائلات تستمر بالوصول إلى هذا المكان أملا بالعبور، وكلما ارتفع عدد العائلات، ارتفع نصيبهم من المعاناة وتفاقمت أزمتهم.
القصص عند جسر "بزيبز" كثيرة، قصص إنسانية مؤلمة، منها قصة ذلك الشاب النحيل الأسمر الذي رأيناه، فجأة تراكضت القوات الأمنية المتواجدة في المكان نحوه، وانهالوا عليه بالضرب واقتادوه إلى داخل نقطتهم الأمنية، ولم تنفع لحظتها صرخات أمّه ومناشدتها للقوات الأمنية، بأنه وحيدها وفلذة كبدها، ولا علاقة له بالإرهاب، بل إنه يعيش حياته كأبسط البشر على هذه الأرض، كل هذا لم يجد نفعا، وبعد فترة وجيزة من التحقيق والضرب والإهانة، عاد صاحبنا، وعندما سألناه عن سبب اقتياده للتحقيق، كان السبب أن القوات الأمنية لاحظت أن ثوبه الذي يرتديه قصير بعض الشيء! وأقسم الشاب أمامنا وهو يمسح دموعه: "والله لا أملك غير هذا الثوب".
مشهد مؤلم آخر: عجوز طاعنة في السن، تتألم وتشكو بعد توقف كليتيها عن العمل، ورغم حالها السيئ والمأساوي، إلا أن الضابط المسؤول عن نقطة العبور إلى العاصمة
العراقية بغداد، لم يسمح لها بالعبور، ولم يكترث لحالها، أخذها ابنها بعد ذلك، وعاد بها.. ولا ندري ما الذي حلّ بهما!
في "بزيبز" يموت الكثير من الأطفال الرضّع لعدم تحمّلهم قسوة الحياة، فما بين برد الشتاء وحر الصيف غير المحتمل، يودّع الكثير من الأطفال الحياة، مثلما حدث مع الطفلة "فاطمة" ذات الشهر الواحد، عندما أصابها البرد واشتد عليها المرض، فتركناها تنازع بين الحياة والموت، لا ندري ماذا نفعل معها! فحديثو الولادة وكبار السن هم الحلقة الأضعف في وسط هذه المأساة.
ورغم هذا الحال المزري، يؤكّد الأهالي بأن الكثير من عمليات الاعتقال تحدث وفق وشاية المخبرين السرّيين المنتشرين بكثرة في المكان، وأغلب الوشايات تكون خاطئة، فهي إما انتقامية، أو وهم من قبل المُخبِر!
فالحاج "أبو أحمد" من أهالي ناحية الصقلاوية، شمال الفلوجة، إنسان بسيط وكبير في السن، تم اعتقاله في منفذ "بزيبز" دون أن يعرف سبب اعتقاله، فليس لديه أي نشاط مشبوه! وبعد اعتقال متعسّف دام أربعة أشهر، تبيّن أن المخبر السري اختلط عليه الأمر مع شخص آخر!
ورغم وجود مخيّم للنازحين "مخيم بزيبز" على بعد بضعة كيلومترات من الجسر، المخيم السيئ بخيامه الهزيلة والمهترئة، والخدمات المعدومة، لكن العائلات التي تريد العبور إلى بغداد تفضّل البقاء قرب الجسر؛ لعدم توفّر سيارات في المخيم تنقلهم منه إلى المنفذ، كما أنهم يتأملون باستعطافهم الضباط أن يسمحوا لهم بدخول عاصمة العراق الممنوعين من دخولها.
وتستمر هذه المأساة، حتى بعدما كشف مجلس محافظة
الأنبار، نهاية العام المنصرم، عن وجود (300) عائلة من الأنبار محاصرة في معبر "بزيبز"، ومطالبا الحكومة المركزية بإنقاذهم من الموت المحتمل، والسماح لهم بدخول العاصمة بغداد.
ويشير مجلس المحافظة إلى أن المحاصرين أغلبهم من النساء والأطفال من أهالي مدن الأنبار، مبيّنا أن "الجهات الأمنية منعتهم من دخول العاصمة بغداد، دون معرفة الأسباب".
ويؤكّد مسؤولون عراقيون أن العائلات العراقية باتت محاصرة لا تستطيع العودة، ولا تسمح لها نقاط التفتيش بالعبور إلى بغداد، وسط ظروف إنسانية وصحية صعبة، فضلا عن شح المواد الغذائية التي يحتاجونها.
ورغم مناشدة مجلس محافظة الأنبار للجهات المسؤولة، وللحكومة المركزية، بضرورة إنقاذ العائلات النازحة والمحاصرة في معبر "بزيبز" بشكل عاجل، والسماح لهم بدخول العاصمة بغداد، إلا أن الوضع يزداد سوءا، فقد منعت "قيادة عمليات بغداد" عائلات الأنبار من دخول العاصمة بغداد، حتى وإن كان معهم كفيل، ما أدى إلى تفاقم الأزمة، المتفاقمة من الأصل، وصار الوضع في غاية الخطورة.
وقد قامت "عمليات بغداد" بتخصيص باص لنقل النازحين، لا يعمل إلا يومي الاثنين والخميس، فتجد مئات العائلات تزدحم عند الجسر تلك الأيام، في محاولة الحصول على فرصة العبور، محتملين المبيت في العراء، والبرد الشديد، حتى يتم نقلهم إلى خارج بغداد، من جهة كركوك وأربيل.
وقد يمر يوما الاثنين والخميس دون أن تأتي الحافلة، وقد تأتي في غير موعده. فعائلة "أبو محمد" وصلت الجسر مساء الخميس، فتفاجأوا بأن عليهم الانتظار حتى يوم الاثنين، لأن باص الخميس قد انطلق! وبعد أيام من الانتظار والمعاناة جاء الموعد المحدد لباص الاثنين، فقامت الأجهزة الأمنية بجمع هويات المواطنين، وسط فوضى وحرب نفسية وإهانات وشتائم واتهامات للعائلات باحتضانهم الإرهاب، ثم فوجئوا أخيرا بأن الباص لن يأتي اليوم! ومع عدم وجود البديل، كان عليهم الانتظار حتى مجيء الخميس، وسط حالة نفسية سيئة، وأوضاع بائسة، وتضييق من القوات الأمنية في المكان.
تجدر الإشارة إلى أن باص "النفي والإبعاد" هذا ليس مجانيا، بل إنهم يأخذون مقابل كل شخص 115 دولارا أمريكيا، مقابل نقلهم خارج بغداد، في مناطق تسيطر عليها المليشيات، ليجد أهل الأنبار أنفسهم أمام مغامرة أخرى من الاستفزاز والابتزاز. ولا يستثنى منع العبور أي حالة إنسانية خاصة، ولا يسمح حتى لمن لديه حجز طيران بالعبور، فقد يضيّع الشخص بسبب هذا المنع موعد الطيران ومصاريف التذاكر.
المأساة مستمرة، والعائلات تعيش في ظروف مأساوية، ولا تجد جهة حكومية تكترث لهم أو تحاول إيجاد حل لهم لإنقاذهم.