كتاب عربي 21

الحرب النفسية.. السلاح الأرخص والأجدى

إحسان الفقيه
1300x600
1300x600
منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، احتلّ الهكسوس ذوو الأصول الآسيوية مصر، قرابة مائة عام، وأصبح الشمال خاضعا لهم، بينما الجنوب كان تحت الحكم المصري.

أرسل ملك الهكسوس "أبوفيس" رسالة إلى "سقنن رع" أمير طيبة عاصمة المصريين في الجنوب، يقول فيها: "إن أفراس النهر في طيبة تزعجني أثناء نومي في القصر".

كثير من المؤرخين ذهبوا إلى أن الرسالة تعني أن عاصمة الهكسوس رصدت تحركات المقاومة وارتفاع الأصوات بضرورة طرد الغزاة الهكسوس، فكانت الرسالة من قبيل الحرب النفسية، لإضعاف الهمم وكسر روح المقاومة بعد انكشاف أمرها.

كان التتار كذلك بارعين في استخدام الحرب النفسية والدعايات التي تبث الاضطراب والخوف، فكانوا كلما دخلوا قرية أثخنوا فيها وقتلوا حتى يسمع بهم غيرهم فيستسلمون، وأخذوا منها أسرى يضعونهم في مقدمة الجيش، فمن جهة يكثرون سواد التتار في أعين الناظرين، ومن جهة أخرى يستخدمونهم كدروع يتترّسون بها في حربهم ضد العالم الإسلامي، وهو ما نتج عنه فتوى التترّس الشهيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية.

* وعلى مر التاريخ في العديد من الدول، كان الملوك والقادة يعلقون الرؤوس ويقتلون رسل الملوك، ويبالغون في إبراز قدراتهم، على سبيل بث الخوف وإثارة الفزع.

فاستخدام الحرب النفسية ليس وليد هذا العصر، لكنه لم يتخذ قبل ذلك طابعا تنظيميا وتخطيطيا شاملا على هذا النحو الذي عهدناه في العصر الحديث.

من الأقوال المأثورة عن الزعيم النازي هتلر: "إن عملية استعداد المدفعية وهجوم المشاة في حرب الخنادق سوف تضطلع بها الدعاية مستقبلا، بأن تحطم نفسية العدو قبل أن تبدأ الجيوش في التحرك، إن أسلحتنا هي الاضطراب الذهني وتناقض المشاعر والحيرة والتردد والرعب الذي تدخله على قلوب الأعداء، فعندما يتخاذلون في الداخل، ويقفون على حافة الثورة، وتهددهم الفوضى الاجتماعية، تحين الساعة لنفتك بهم بضربة واحدة".

المقولة واضحة في إبراز عظم اهتمامه باستخدام الحرب النفسية التي قال بشأنها: "لماذا أخضع الأعداء بالوسائل الحربية ما دام في وسعي أن أخضعهم بوسائل أخرى أرخص وأجدى؟".

إدموند تايلر في كتابه "استراتيجية الرعب" ذكر أن النازيين أغرقوا الدول المعادية بقصص الرعب والانهزامية توطئة للحرب الخاطفة، وروّجوا الإشاعات بكثافة لإخماد همم شعوب بولندا وفرنسا وغيرهما، وتمكنوا من خلال الحرب النفسية الضارية من بث الشك لدى هذه الشعوب في قدرة حكومات الحلفاء على إنقاذهم.

ونظرا لأن الحرب النفسية تحتل مكانة كبيرة في العسكرية الأمريكية، لذا أوردت وزارة الدفاع الأميركية تعريفا للحرب النفسية في قاموس المصطلحات الحربية الصادر في مايو 1955، جاء نصه كما يلي:

"الحرب النفسية استخدام مخطط من جانب دولة أو مجموعة دول للدعاية وغيرها من الإجراءات الإعلامية التي تستهدف جماعات معادية أو محايدة أو صديقة، للتأثير على آرائها وعواطفها واتجاهاتها وسلوكها، بطريقة تساعد على تحقيق سياسة الدولة أو الدول المستخدمة لها وأهدافها".

لذا أولت أجهزة الاستخبارات العالمية الحرب النفسية اهتماما كبيرا لتغيير وتقليب الرأي العام في الدول المعادية، عن طريق إثارة الرعب والفوضى، وبث الشائعات، وافتعال الأزمات.

فأما عنصر إثارة الرعب والفوضى فيرتكز على استغلال حاجة البشر إلى الأمان، والذي يقع في المرتبة الثانية من الاحتياجات البشرية التي تشكل دوافع السلوك الإنساني بعد الحاجات البيولوجية وفقا لهرم ماسلو، وكان هذا العامل هو كلمة السر في الاجتياح الألماني لفرنسا في وقت قياسي (17 يوما) بسبب قصص الرعب التي نجح إعلام هتلر في ترويجها، رغم ما كان يشاع عن قوة تحصينات خط ماجينو أمام الزحف النازي.

هو ذات الأمر الذي استخدمه الكيان الصهيوني في حروبه مع العرب، حيث روج لأكذوبة خط بارليف الذي لا يقهر، ولسلاح الجو الذي هو ذراع إسرائيل الطويلة، إضافة إلى ضرب أهداف مدنية، للتأثير على الرأي العام العربي، والتخلي عن فكرة الحرب وتحرير الأرض.

وأما عنصر بث الشائعات، فيقوم على الترويج لخبر مُختلق أو يتم تضخيم خبر ما أو تشويهه، أو الخلط بين معلومات صحيحة وأخرى كاذبة، أو عرض أخبار صحيحة لكن يتم التعليق عليها بأسلوب مغاير للواقع.

اتّبعَ الإعلام الإسرائيلي هذا الأسلوب في حرب العاشر من رمضان (أكتوبر) 1973، وادعى وصول القوات الإسرائيلية إلى دمشق، وسقوط السويس المصرية.

وأما عنصر افتعال الأزمات كأحد أساليب الحرب النفسية التي تهدف إلى تغيير وتقليب الرأي العام، فقد برعت فيه أجهزة المخابرات العالمية، حيث تمكنت أمريكا عن طريق الإذاعة السرية الموجهة إلى كوبا، من تحريض معارضي كاسترو على إثارة الفوضى وإشعال الحرائق وتخريب المنشآت، بهدف إقناع الرأي العام العالمي بوجود معارضة قوية داخل كوبا ضد زعيمها.

وإني لأتساءل كما يتساءل غيري حتما: أين نحن من استخدام الحرب النفسية ضد أعدائنا؟ لماذا نكتفي بالوقوف في المراكز الدفاعية ضد هذه الحرب (هذا إن وقفنا)، لماذا لا نبادر باستخدامها ضد خفافيش الظلام التي تحيك مؤامراتها ضد الأمة الإسلامية والعربية.

الحرب النفسية مشروعة، قد تكون وسيلة للردع أحيانا، ولإقرار السلام والأمن أحيانا أخرى، ولم يكن صدر الإسلام الأول بمعزل عن هذه النوعية من الحروب.

لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا، أراد أن يُرِي أبا سفيان بن حرب (كان وقتها مشركا) ـ قوة المسلمين، جاء في سيرة ابن هشام: "فلما ذهب (أبو سفيان) لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها) قال: فخرجتُ حتى حبستُه بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه. قال: ومرَّت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: "سُليم" فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: "مُزيْنة" فيقول: ما لي ولمُزينة حتى نفدت القبائل ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم قال: ما لي ولبني فلان حتى مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء".

وحول الواقعة يقول الباحث التاريخي المعروف الدكتور علي الصلابي: "وكان صلى الله عليه وسلم يريد أن يشُن حربًا نفسية للتأثير على معنويات قريش حتى يتسنى له القضاء على روح المقاومة عند زعيم مكة"..

مع الفارق أن استخدام الحرب النفسية في عهد النبي صلى الله وعليه وسلم وأصحابه، كان يمضي في ظل الإطار القيمي والأخلاقي الذي تفردت به الحضارة الإسلامية عن غيرها، فلم يكن خاضعا لمنطق "الغاية تبرر الوسيلة".

فلست أدري؛ هل هناك خلل في إدراك أهمية الحرب النفسية، أم إن هناك نقصا في أدواتها، أم هو ضعف في منظومة الإعلام الحربي؟

لكن بكل حال، نحن بحاجة إلى هذا النمط في تلك الفترة التي تُحرك فيها إيران أذرعها في دول المنطقة، وكل لبيب بالإشارة يفهم.
التعليقات (5)
Esam Mansour
الإثنين، 18-01-2016 07:09 ص
موضوع الحرب النفسية بالوسائل المشروعة أو الغير مشروعة أو لنقل الوسائل الشيطانية القذرة .... طويل جدا وفيه تشعبات وكما نعلم أن الحرب خدعة وأجمل القصص التي عرفناها هي قصة حرب موهاج (موهاكوس) التي شاركت فيها النمسا أو المجر مع بقية الحلف الأوروبي والفاتيكان على الدولة العثمانية .. والتي إستطاع فيها سليمان القانوني هزيمتهم هزيمة نكراء وتلقينهم درسا لازال موجعا لهم إلى اليوم وكانت مدة المعركة وحسمها في 90 دقيقة فقط ولا زالت حيرتهم وإندهاشهم كيف جرهم إلى هزيمة أنفسهم وقتلها بأيديهم حتى أنها اصبحت مثلا لدى اهل المجر لوصف مصيبة عظيمة بقولهم (أسوأ من موهاكوس)... كان التكتيك العبقري مع العامل النفسي هو سلاح جبار جعل أوروبا تبات مرعوبة كل يوم من هذه العبقرية الفذة ... كما ان سليمان القانوني لم يغفل عن جعل جيشه يحرصون على الشهادة والنصر حرص غيرهم على الحياة وإختار لذلك كلمات قليلة مقتضبة ذكر فيها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم ليرى فعلهم .. فألهب صدور جيشه بالحماس ... هذه المعركة وغيرها تروي جزالة وعظمة وعبقرية التاريخ الإسلامي ولو كان هناك إعداد للأمة لتكون بنفس درجة الشموخ في عصرنا الحالي كما كانت سابقا لكان حالنا غير هذا الحال ... ولكن الذي حدث هو العكس بأن تعمد أذناب الصليبين والصهيونية طمس هذا التاريخ المجيد وإخفاءه من كتب التاريخ وإختصار قصة الخلافة العثمانية في صفحات قليلة هزيلة الطرح والمضمون مع التقليل من شأن إنجازاتهم وتسمية بعض ما ذكر من الفتوحات بالإحتلال أو السقوط في أيدي المسلمين .... الخ عدا عن التركيز على أن أولئك الخلفاء والقادة العظماء كانوا من أصحاب الغواية والمزاج والحب والبذخ والنساء والجواري والراقصات ولا ننس ما قاموا به من تمثيل مسلسل لتشويه سيرة الخليفة سليمان القانوني والمعروف بإسم حريم السلطان ... ومن التركيز على وصم الدولة العثمانية بالهزيمة بتسميتها بإسم الرجل المريض وليس الرجل الذي خانه كل من كانوا حوله حتى من أهل بيته .... والهدف واضح وجلي وهو إنشاء أجيال المستقبل بالهزيمة النقسية مسبقا ومنذ نعومة اظفارهم بحيث لا يعتزون بدينهم ولا يستشعرون عظمته في نفوسهم ولا بعظمة التاريخ الإسلامي ورموزه ... فتكون لدينا أجيال تبحث عن معنى وتميزا لوجودها بما نصب لها أعداؤنا من شراك ومصائد وأفخاخ ترسل بالأمة في قاع التاريخ والتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية ... ولا أوضح من ذلك كيف أن القلق والتآمر بدأ يحاك حول تركيا عندما رأوا وشعروا أن جذوة الإسلام وعزته بدأت تدب في أوصال الأمة من تلك البلد العظيم بلد آخر خلافة كانت وستعود بإذن الله رغما عن كل من خانوها وغدروها ... اللهم آمين https://www.youtube.com/watch?v=KEUN-4ChFjE
لbullblla
الأحد، 10-01-2016 08:53 م
اتمنى ان تلجأ جبهة المعارضة فى كل بلاد الربيع العربى وعلى رأسها مصر بلدى الى المضى فى هذا النوع من الحرووب المشروع والذكى والذى له تأثير كبير على المجتمعات وعلى الأعداء ,ويمهد للنصر ,,,مع استخدام الفضائيات المتاحة والسوشيال ميديا وابداعات الشباب ...ونقول يارب
صالح
الأحد، 10-01-2016 07:12 م
الحرب النفسيه تحتاج الى مؤسسات فاين هي وهي تاتمر بامر العدو .حربنا النفسيه لابناء جلدتنا القذرين المعتمدين من الاعداء لاذلالنا .
Adam
الأحد، 10-01-2016 02:35 م
I am really disappointed in you. So Iran is the enemy number one then comes, say, Israel. Is Iran a Muslim country or not Please respond and clarify your situation. kill mislms
يوما ما
الأحد، 10-01-2016 01:51 م
تحياتي للكاتبة المبدعة على اختياراتها وطرحها وعمق نظرتها للماضي والحاضر واستشراف المستقبل، حقا أنت ثروة كبيرة للأمة، وجهودك أتعبت الرجال

خبر عاجل