هنالك ما يشير إلى أن القرار السعودي مطلع العام الجديد بإعدامات جماعية كان تحركا محسوبا، فما من شك في أن الرياض توقعت أن يفعل الباسيج بالدبلوماسيين السعوديين ما فُعل من قبل بممثلي الحكومات التي استجلبت سخط الملالي. لقد كان السعوديون على أهبة الاستعداد لقطع العلاقات الدبلوماسية، ضامنين أن الدول العربية ستتبعهم في ذلك.
لم تكن تلك هي المرة الأولى خلال الشهور الأخيرة التي تجد
إيران فيها نفسها في حالة من التعثر والتخبط بسبب التحرك السعودي، وذلك بالرغم من أنها كانت دوما تفاخر بقدرتها على توقع الخطوات التالية لخصومها واستباقهم. وحدث ذلك عندما أعلنت الرياض عن شن هجوم عسكري ضد الحوثيين بعد أن استولوا على اليمن، فحينها كانت إيران تنطلق في حسبتها من فرضية أن المملكة العربية
السعودية ماتزال تتحرك بحذر وخلف ستارة من الخرز.
ولكن هنا ذهبت المملكة تلعب دورا مختلفا، حيث أعلنت تدشين موسم مفتوح من الصراع الإقليمي مع جارتها الفارسية، وذلك يؤشر على أكثر من مجرد درجة واحدة نحو الأعلى في سلم العداوات مقارنة بموقفها الحالي المتمثل في قتال جماعات تخوض الحرب بالوكالة مثل الحوثيين ورئيس
سوريا بشار الأسد وحزب الله المدعومين جميعا من قبل إيران.
باتت العداوة على المكشوف، وبات بها الانقسام الإقليمي هو سيد الموقف، وغدا من أسس السياسة السعودية الرسمية تحدي النفوذ العسكري والسياسي الذي تعودت إيران بشكل متزايد على ممارسته في سوريا واليمن وفي العراق منذ الغزو الأمريكي في عام 2003. لم يبق من طيف العلاقات الثنائية متماسكا سوى القليل جدا، ربما فيما عدا الاستعداد لاستضافة الحجاج الإيرانيين المسلمين في موسم الحج. ولكن لو أخذنا بالاعتبار ما جرى في موسم حج العام الماضي، فحتى هذه الاستضافة باتت موضع شك. لقد توقفت الآن كافة أشكال النقل التجاري والجوي بين البلدين.
في سبيل الخير أو في سبيل الشر، وفي المرض كما في الصحة، أصبحت المملكة العربية السعودية بقيادة الملك سلمان قوة إقليمية صارمة على استعداد للدفاع عن مصالحها بالقوة. وفي سبيل ذلك حددت المملكة حلفاءها في المنطقة: تركيا وقطر، كما حددت خصومها فيها: إيران وروسيا، واستعدت لمواجهتهما. وهي الآن تفرض على الدول العربية التحيز واختيار مع من تقف من الجانبين. ويوم الاثنين أعلنت كل من البحرين والسودان قطع علاقاتهما بإيران بينما اختارت دولة الإمارات العربية المتحدة تخفيض مستوى علاقاتها الدبلوماسية بها.
سيكون من المفيد معرفة ما إذا كانت الرياض قد أشعرت واشنطن قبل وقت كاف بالتصريح الذي صدر عن وزير الخارجية عادل الجبير. ربما كانت مدة الإشعار أقصر من تلك الذي سبقت القرار بشن الهجوم على اليمن. من الواضح أن المملكة العربية السعودية لم تعد تنتظر موافقة راعيها ومزودها العسكري الأساسي. مثل غيرها من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، لقد تعودت الملكة على التصرف بمفردها.
يؤذن هذا التحرك بوضع نهاية، على الأقل في الوقت الحاضر، لمحادثات وقف إطلاق النار في سوريا وربما أيضا محادثات وقف إطلاق النار الخاصة باليمن. ومن غير المحتمل أن تنتهي تداعيات ما جرى في نهاية الأسبوع الماضي عند هذا الحد. فثمة مؤشرات على أن الرياض ستمضي قدما في هجومها سعيا إلى تقييد قدرة إيران على الدخول من جديد إلى الأسواق العالمية بعد إبرام صفقتها النووية مع واشنطن. ستُبقي المملكة العربية السعودية أسعار النفط عند أدنى مستوى وصلت إليه حتى لو كان ثمن ذلك مفاقمة أزمة ميزان المدفوعات الخاص بها. فقد آتت هذه السياسة أكلها من قبل حينما ألحقت أضرارا جسيمة بقدرة بنك التجارة الخارجية في روسيا "فنيش إيكونوم بانك" على الوفاء بسداد الديون، حتى بات الآن بحاجة إلى 18 مليار دولار حتى يتعافى ويتمكن من العودة إلى الإقراض تارة أخرى.
لو كان ذلك مخططا له من قبل، فلم يجري تنفيذ الخطة الآن تحديدا؟ خمسة وأربعون من بين الذين نفذ فيهم حكم الإعدام هم مواطنون سعوديون، وشملت الدفعة مواطنا تشاديا وآخر مصريا. وكان ثلاثة وأربعون منهم من السنة، كثيرون منهم من مقاتلي القاعدة الذين صدرت بحقهم أحكام بالإعدام وكانوا ينتظرون التنفيذ منذ مدد متفاوتة يعود بعضها إلى العام 2004. كان إعدام هؤلاء ورقة بإمكان الرياض أن تلعبها في أي وقت منذ آخر موجة تفجيرات شنتها القاعدة في عام 2012. ولكن لم جرى اللعب بالورقة الآن، وما هي الرسائل السياسية التي أرسلت، ولمن وجهت؟
لقد واجهت المملكة العربية السعودية تاريخيا مصدرين من التمرد الداخلي: الأقلية الشيعية، التي يقطن كثير من أبنائها في المنطقة الشرقية، والجهاديين السنة. إلا أن واحدا فقط من هذين المصدرين هو الذي يهز النظام. يجمع معظم المحللين على أن الاحتجاجات الشيعية لا تملك نفس القدرة. من بين السنة الثلاثة والأربعين الذين أعدموا، ركزت وسائل الإعلام المملوكة للدولة على واحد فقط هو فارس الشويل الزهراني.
وُصف الزهراني بأنه المنظر الذي وقف وراء سلسلة الهجمات التي استهدفت الأجانب ومراكز الشرطة ومرافق النفط وتسببت في قتل المئات. من خلال إعدام "داعية التكفير" يكون النظام قد صفى حسابه مع منافس له في المعتقد. فطبقا للسلفية الوهابية لا يملك صلاحية التكفير سوى داعية مكلف من قبل الدولة، ويقصد بالتكفير اعتبار شخص ما كافرا أو خارجا عن الملة. ولعل المقصود من إعدامه هو طمأنة الأغلبية السنية. ولكن ثمة رسالة ضمن ذلك موجهة إليهم، رسالة تأتي في عام يرفع فيه الدعم عن أسعار الوقود وتخفض فيه مكافآت العمل الإضافي في المؤسسات التي تديرها الدولة، ويفرض على الجميع دفع المزيد من الضرائب بما في ذلك ضريبة معينة على المبيعات، ومفاد هذه الرسالة أن الدولة لن تتسامح مع أي شكل من أشكال الاحتجاج.
أما على المستوى الخارجي، فقد كان محتما أن يثير إعدام رجل الدين الشيعي
نمر النمر موجة من الاحتجاجات في الخارج، وخاصة أن إيران كانت قد بذلت جهودا كبيرة لتسليط الضوء على قضيته. وانسجاما مع الموقف الإيراني، سارع كل من حسن نصر الله، رئيس حزب الله، ومقتدى الصدر، رجل الدين العراقي، إلى التنديد بإعدام النمر. وكانت صحيفة الإندبندنت قد أشارت إلى بيان داخلي تسنى لها الاطلاع عليه يأمر فيه رئيس جهاز الأمن السعودي قوات الشرطة في البلاد بإلغاء جميع الإجازات المقررة في مطلع عام 2016 حاثا إياها على توخي "أعلى درجات الحذر" حتى إشعار آخر.
وكانت فرص إجراء محادثات جوهرية بشأن سوريا قد تلقت ضربة قاتلة بسبب المزاعم بأن غارة جوية روسية هي التي قتلت زهران علوش، قائد جيش الإسلام. وذلك أن زهران علوش وافق على الانخراط في عملية السلام السعودية في الوقت الذي نأي غيره من قادة المليشيات السورية بأنفسهم عنها. يبدو أن روسيا أرادت من خلال قتلها لعلوش، نيابة عن الأسد، أن تثبت أنها قادرة على إعادة تشكيل البيئة التفاوضية من خلال تصفية من لا تريد لهم المشاركة في العملية السياسية وإبقاء من ترغب فيهم. لم يسفر مقتل علوش عن تغير في ميزان القوة في الميدان حول دمشق بقدر ما أسفر عن النيل من عزم المملكة العربية السعودية على المضي قدما في العملية السياسية.
والآن يبدو أن فرص نجاح المحادثات باتت في عداد الأموات، وبديلا عن ذلك ذهبت المملكة العربية السعودية تنمي علاقة أمنية معمقة مع تركيا، ويشاع بأن زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأخيرة إلى الرياض قد تمخضت عن إبرام صفقات لشراء سلاح و عربات مصفحة تركية بمليارات الدولارات.
من المتوقع الآن أن شدة المعارك ومستوى القتل اللذين تصاعدا منذ أن بدأت الطائرات الحربية الروسية تقصف من الجو أهدافا تعود بشكل أساسي إلى المعارضة سيزدادان سعارا على الأرض أيضا. وبما أن خطوط المواجهة على الأرض لم تتغير إلا قليلا فإن ذلك يعنى شيئا واحدا، ألا وهو أن الصراع سيمتد وسيطول أمده. وأي حديث عن أن الحرب الأهلية توشك أن تنطفئ جذوتها من خلال إبرام اتفاقيات محلية لوقف إطلاق نار بات الآن مجرد صدى لثرثرة متفائلة من الماضي البعيد.
وبالنسبة لواحدة على الأقل من القوى المتدخلة – روسيا وإيران من جهة وتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر من جهة أخرى – ستتحول سوريا إلى أفغانستان أخرى، وسيتوجب على قوة أجنبية واحدة الانسحاب من هذه الحرب وهي تجر ذيول الخزي والعار. يبدو أن المملكة العربية السعودية، التي تلقى سياستها الخارجية دعما في أوساط الأغلبية السنية من سكان المنطقة، واثقة من أنها لن تكون تلك القوة التي ستضطر إلى ذلك.
من شأن ذلك أن يعمق الصراع أكثر فأكثر في المنطقة خلال عام 2016، وإذا كان عام 2015 عنيفا، فإنه يتوقع للعام الحالي أن يكون أشد عنفا. كما أن التحرك السعودي سيشكل تحديا لمصر، حيث أن السعوديين الذين يمولون حكم العسكر في مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي تسامحوا حتى الآن إزاء التجاوب البارد الذي أبدته مصر تجاه المملكة العربية السعودية في كل من اليمن وسوريا. سيكشف القادم من الأيام إلى أي مدى سيستمر السعوديون في تساهلهم هذا وخاصة إزاء التقارب المصري مع كل من روسيا وإيران.
من أي زاوية نظرت إلى الموضوع ستجد أننا بصدد حراك لن يسهل على أي طرف الانسحاب منه سريعا. المجازفات كبيرة جدا على المستوى الدولي، وما من لاعب في هذا الصراع إلا ويشعر أنه استثمر فيه الكثير فلا يسهل عليه الانتقال مباشرة إلى الغيار العكسي ليعود إلى الخلف. وكل حكومة من الحكومات المشاركة لديها ما يشغل بالها ويشعرها بالخطر داخليا. المساحة المتاحة للتنازل ضيقة جدا، ولكن في نهاية المطاف لا مفر من وضع خط لتوازن القوة ما بين إيران والمملكة العربية السعودية. وهذا ما سيتحقق الآن من خلال اختبار دولي للإرادات يجري في منطقة تعج بالأسلحة، وهي أسلحة يشهرها أناس يعرفون جيدا كيف يستخدمونها.
(ذي هافنغتون بوست)