يعبر البحر اللجي وهو يقامر بين الحياة والموت بالنسبة نفسها، مناصفة بين النجاة والغرق، إذ إنه يعبر بحرا يغشاه موج فوقه موج فوقه سحاب.
ويجتاز الأسلاك الشائكة التي تمزق جسده وأجساد أطفاله ومن معهم مثل أفعى متلونة تفرغ سمها في قلبه.
يعبر الصحراء اليباب حيث يندر الماء ويلمع السراب، وتعوي الرياح والذئاب. حتى الرياح تتعب من العواء والدوران في صحراء جرداء، فتصطدم مدحورة بالجبال. وإذا ثارت العواصف بالغبار كست ما سفل وعلا، وملأت الوجوه والعيون بالتراب.
ويمر هاربا من المدن والقرى الخراب، التي تنعق فيها الغربان، مثل صفير قطار مندفع في ليلة باردة حالكة الظلمة.
يطارده القناصة ودوي المدافع وأزيز الرصاص، ولعنات "الفتوات" و"الشبيحة" و"الزعران" الذين يسعون للظفر به، لاقتلاع ما تبقى من جسده وروحه ومحو هويته.
يهرب بحثا عن الأمن والأمان، لكنه بالكاد يدركه، فليس ثمة جنة عدن بانتظاره، لكنها طوابير طويلة من المشردين والمحرومين الباحثين عن الدفء وكسرة الخبز وجرعة الماء والمأوى.
يحتفل به العالم سنويا في العشرين من حزيران/ يونيو من كل عام، مع أنه لاجئ مشرد بعيدا عن وطنه الطبيعي طيلة العام، وفي كل يوم وفي كل دقيقة، هو كائن حي مثير للشفقة وللغضب معا.
تقول الأرقام إن واحدا من بين كل 122 شخصا على مستوى العالم إما لاجئ أو نازح داخل بلاده، أو يسعى للجوء.
وتفيد الأرقام، أيضا، بأن أعداد النازحين واللاجئين بسبب الحروب والصراعات والاضطهاد على مستوى العالم، سجلت رقما قياسيا في عام 2015، وصل إلى حوالي 60 مليون شخص.
وخمسة من كل ستة من اللاجئين في العالم في السنة الأخيرة هم من العرب، وخمس تعداد العالم، أي العرب، ينتجون نصف اللاجئين في العالم. ومعظم أبناء الصراعات في اليمن والعراق وسوريا وليبيا، الذين هم في سن التعليم الأساسي أو الثانوي خارج مقاعد الدراسة، أي إن جيلا كاملا من الجهلة الغاضبين سيكبرون وهم يعيشون مأساة اللجوء تأكلهم الحسرة والغضب واليأس.
كانت فلسطين المنبع الأول للجوء والتشرد خارج وداخل الوطن، وكانت هجرات الفلسطينيين في أعوام 1948 و1967 هي الأكبر في التاريخ، على الأقل تاريخ المنطقة العربية. ويُعد عدد اللاجئين الفلسطينيين الأكبر في العالم ويُعدون الأطول معاناة، حيث إن عددهم يبلغ نحو خمسة ملايين مسجلين لدى وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
لكن في السنوات الأربع الأخيرة سرقت سوريا اللقب دون منافس لها، وتقول المفوضية السامية إن
الحرب السورية التي بدأت عام 2011 كانت السبب الرئيس وراء النزوح الجماعي، إذ إنه لجأ أكثر من 4.2 مليون سوري للخارج، ونزح 7.6 مليون عن ديارهم إلى أماكن أخرى داخل سوريا.
ولا ينافس سوريا أحد من خارج المنظومة العربية.. فقط العرب ينافسون بعضهم بعضا، ويبلغ عدد المهجرين داخل الأراضي العراقية على سبيل المثال نحو 3.5 مليون شخص، وفي السودان بلغ عدد المهجرين أكثر من مليونين ومائة ألف شخص، وتكاد الأرقام تتقارب في "بلاد العرب أوطاني" مثل اليمن والصومال وليبيا.
وإذا خرجنا من العالم العربي، فإن الصورة لن تكون مشرقة في العالم الإسلامي الذي يدخل المنافسة في أعداد اللاجئين، خصوصا القادمين من أفغانستان.
وبشكل خاص، يشكل الأطفال أكثر من 50 في المئة من أعداد اللاجئين في العالم.
مأساة اللاجئ أنه يهرب من الحروب والدكتاتورية والظلم بحثا عن السكينة المؤقتة لحين عودته إلى وطنه الطبيعي، لكن الأماني شيء والواقع شيء آخر، فكثير من اللاجئين سيظلون خارج أوطانهم لسنوات. وتقول الأمم المتحدة: "إذا أصبحت لاجئا اليوم، فإن فرص عودتك إلى الديار ستكون أقل مما كانت عليه في أي وقت منذ أكثر من 30 عاما".
العالم في حالة فوضى، والأسوأ أن العالم يظن أن بإمكان المساعدات الإنسانية علاج هذه الفوضى، لكن ذلك لم يعد أمرا ممكنا، فالدول المانحة للمساعدات تعبت ولم تعد لديها الإمكانات لإصلاح ما فسد، فالأعداد في ازدياد، والمعاناة تتعمق وتتحول إلى هجرات جماعية محفوفة بالمخاطر نحو أوروبا التي بالكاد تتقبل وفود عرب ومسلمين إلى أراضيها.
ورسمت للعرب والمسلمين في أوروبا في السنوات الأخيرة صورة سلبية للغاية، واعتقد معظم الغربيين أن ثمة غزوا ثقافيا ودينيا جديدا لحدودهم، وانتهاكا لطريقة عيشهم، هو "عدوان" يلبس أثواب الضعف الإنساني وطلب المعونة والحماية من الحروب والأنظمة الفاشية والحكومات الفاشلة.
الغرب يقرأ المشهد ويفسره وفق هواه، وعند كثير منهم فإن العربي بالضرورة "
داعشي" ومشروع "إرهابي" أو هو "خلية إرهابية نائمة".
يتحول الضحية، اللاجئ، إلى ضحية مرة أخرى عبر منعه من الوصول إلى بر الأمان، وتحويله إلى متهم غير بريء حتى يثبت العكس، والتشكيك في إنسانيته ونواياه.. إعادة إنتاج للضحية، ومراكمة للغضب في عقله وفي قلبه.. غضب ممن تسبب في تشرده أولا، ومن الذين يشككون في مأساته الإنسانية ثانيا.
اللاجئ، إنسان خسر حياته الماضية بالكامل، وهو في الوقت ذاته لم يكسب حياة جديدة، وإن كسبها فهي حياة مليئة بـ"المنغصات" والمعاناة والخيبات، ولا شيء يعزيه أو يعوضه عن وطنه.
المساعدات والخيمة وقوارب اللجوء ليست بديلا عن الوطن، ربما تكون هي أيضا جزءا من المأساة وليس جزءا من الحل، فلا شيء في الكون يحمل نكهة تشبه مذاق الوطن.