منذ اكثر من اربعين عاما في السبعينات - وبدايات تعرفنا علي جماعة الاخوان المسلمين – كنا حريصين على التعرف على تاريخها بجانب التعرف على فكرها ومنهجها. ومن خلال التعرف على التاريخ والنشأة والتاسيس والمراحل التي مرت بها الجماعة والمحن التي عاشها افرادها منذ التاسيس وحتى ذلك الحين. كنا دائما ما نتوقف عند الازمة بين الاخوان وعبدالناصر وقرأنا الكثير مما نشر في السبعينات والثمانينات سواء الكتب التي كان يكتبها افراد الاخوان او غير الاخوان بالاضافه الى ما كنا نسمعه من قيادات الاخوان في ذلك الوقت ممن عاش تلك الفترة وعاصر ثورة يوليو 52 وحتى احداث فبراير ومارس 54 واحداث المنشيه والاعتقالات التي قام بها النظام والمحاكم العسكريه والاعدامات التي تم تنفيذها في العديد من افراد الجماعة وقيادتها. وكانت من المشاهد التي كنا نتوقف عندها كثيرا هو موقف الاستاذ عبدالقادر عوده رحمه الله في مظاهرة عابدين الشهيره عندما طلب من الجموع الغفيرة (اكثر من نصف مليون شخص في معظم التقديرات وكان يقدر عدد سكان
مصر وقتها 20 مليون نسمه) من جماعة الاخوان المسلمين وابناء الشعب الذين شاركو في المظاهرة من اجل المطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية واقامة حياة ديمقراطيه وعودة الجيش لثكناته. وبعد ان تحدث الرئيس نجيب وطمأن المتظاهرين على تحقيق ما يطالبون به لم ينصرف الاخوان وهنا طلب الرئيس محمد نجيب من الاستاذ عبد القادر عودة ان يتعامل مع ابناءه كما قال ( شوف ولادك ياستاذ عبدالقادر) وهنا صعد الاستاذ عبدالقادر الى شرفة القصروامسك بالميكروفون وقال للمتظاهرين ايها الاخوان انصرفوا في امان سالمين فانصرف الجميع في دقائق معدوده.
هذا الموقف نال الكثير من النقاش خلال السبعينات مع عودة الجماعة للعمل وخروج قيادتها من سجون الحقبه الناصريه في منتصف السبعينات. وكانت جموع الشباب المقبل على الاسلام وتلتزم بجماعة الاخوان المسلمين تنتقد موقف الاستاذ عوده وتتصور ان الاستاذ اضاع فرصه ثمينة بصرف الاخوان من امام القصر وانه كان من المفترض ان يقوم بتثوير المتظاهرين والانقضاض على قيادات مجلس قيادة ثورة يوليو عبدالناصر ورفاقه. وكان من عناصر الانتقاد ان الاستاذ عبدالقادر لم يقدر قوة الاخوان بشكل سليم واضاع حقها في هذا الصراع. وكان من اهم اسباب هذا الانتقاد واللوم هو ما لاقاه الاخوان من اعتقالات وتعذيب واعدامات واحكام بالسجن ظالمة بلغت خمسة وعشرون عاما للكثير من افراد الاخوان دون وجه حق. وللحقيقة كانت ايضا هناك اصوات من قيادات الجماعة تؤكد على ان موقف الاستاذ عبد القادر عودة كان هو الموقف الصحيح وان الجماعة استفادت كثيرا وبقت ونمت بالرغم مما لاقته وافرادها من ظلم وعنت خلال الخمسينات والستينات. بل ان البعض كان يؤكد على ان نمو الجماعة وانتشارها ليس فقط في مصر بل في العالم اجمع كان نتيجه لهذا الموقف الذي ابعد الجماعه عن المواجهه المباشره مع النظام العسكري الذي كان يحكم وان مواجهة الجيش ليس في مصلحة الجماعة وليس من اولوياتها.
وبعد مرور اكثر من ستين عاما على احداث مظاهرة عابدين نجد موقف الاستاذ عبد القادر عوده يعود مره اخرى للواجهه وتتجادل الأراء من حوله مرة اخرى وهل كان الاستاذ عوده موفقا في قراره ام انه كان غير موفق. ونحن هنا لسنا بصدد تحليل هذا الموقف او الحكم على قراره والاجابة على السؤال هل كان مصيبا ام لا. فان هذا يحتم علينا ان نبحث في ملابسات الواقع التاريخي الذي صاحب ذلك المشهد وما هى قدرات كل الاطراف التي كانت متواجده على الساحة في مصر في ذلك الوقت بالاضافة الى واقع الجماعة واهدافها واولوياتها. بالطبع تم تقديم عدد من هذه العناصر وغيرها عبر العديد من الكتب والبحوث والمقالات التي تم نشرها . وفي هذا المقال لن نكرر ما تم نشره من هذه الملابسات او تلك الاحداث ولكننا سنحاول القاء الضوء على جانب من جوانب المشهد وهل اثر هذا الجانب على موقف الاستاذ عبدالقادر وذلك من خلال ما ذكره الاخوه الكبار الذين عاصروا تلك الفتره. ونكرر اننا هنا لسنا بصدد الحكم على موقف الاستاذ عبدالقادر عوده بانه كان صوابا او خطأ ولكنها محاوله ان نرى المشهد من جوانبه المختلفه.
يؤكد من عاصر تلك الفترة انه صدرت تعليمات للاخوان بتنظيم مظاهرات تطوف باحياء القاهره ثم تتجه الى ميدان عابدين امام القصر للمطالبه بتطبيق الشريعة الاسلامية والمسار الديمقراطى وعودة الجيش لثكناته وكان من المقرر ان تخرج مظاهرة من جامعة القاهرة وطلاب مدارس الجيزه وكان من المفترض ان تتجه الى كوبري عباس ومنطقة الملك الصالح ومنطقة فم الخليج وعدد من المناطق المكتظه بالسكان لينضم اليها اكبر عدد ممكن من الشعب ثم ينتهى بها المطاف عند ميدان عابدين. ولكن حدث تغير بعد خروج المظاهرة من جامعة القاهرة وانضمت اليها الاعداد الغفيره وارتفعت الشعارات والهتافات التي كانت ترج الشوارع ( اسلاميه اسلاميه ) عندها قرر -الاخ المكلف بتوجيه المظاهرة- تغير المسار وبدلا من ان يسير حسب المخطط له قام بتحويل المظاهرة لتتجه الى كوبري الجلاء ثم كوبري قصر النيل وكورنيش النيل وباب اللوق قبل الذهاب بها الى قصر عابدين. وفي طريق المظاهرة بين كوبري الجلاء وكوبري قصر النيل مرت امام مجلس قيادة الثورة وتعرضت لها قوات البوليس الحربي الذي كان يحرس المجلس وقتها باطلاق النار على المظاهرة السلمية. ونتج عن هذا سقوط احد المتظاهرين من الاخوان شهيدا و قد اصيب عدد اخرمن المشاركين فيها باصابات مختلفة. تفرقت المظاهرة في منظقة الجزيرة ثم تجمعت مرة اخرى بعد كوبري قصر النيل ثم استمرت مسيرتها الى ميدان التحرير ثم باب اللوق واخيرا الى عابدين وهم يحملون جثة الاخ الذي سقط شهيدا. ذهب بعض الاخوه بقميص الاخ الذي استشهد مخضبا بالدماء الى الاستاذ عبالقادر عوده وسرد الاخوه عليه ما حدث من البوليس الحربي واطلاقه الرصاص على المتظاهرين واستشهاد احد الاخوة واصابة عدد اخر. وكان وقتها هو القائم باعمال المرشد حيث كان الاستاذ الهضيبي المرشد العام معتقلا بعد قرار حل الجماعة في يناير 1954, فقام بالذهاب فورا الى عابدين والمشاركة في المظاهرة والقى خطابا في المتظاهرين والجميع يعلم ما حدث بعد ذلك ودعوة محمد نجيب له للصعود لشرفة القصر وفي النهايه قام بصرف المتظاهرين.
فهل اثر مشهد الاخ الشهيد على موقف الاستاذ عبد القادر وغير من قراره بعدم الاستمرار في المظاهرة امام عابدين وقرر صرف المتظاهرين لانه ادرك ما يمكن ان تؤول اليه الاحداث ولم يُرد ان يتحمل هو او الجماعة نصيبا من هذا الدم. ام ان هذا كان قرارا متخذا بعدم مواجهة مجلس الثورة والجيش بغض النظر عن الاحداث التي وقعت امام مبنى مجلس قيادة الثورة. ام ان هذا هو منهج الجماعة وفكر الاستاذ البنا عند تاسيسها وان مواجهة ابناء الشعب الواحد لبعضه البعض بالسلاح ليس هوالاسلوب الذي اعتمدته الجماعة للتغير. ومن الممكن ان يكون الاستاذ عبد القادرعوده قد فكر في كل هذه البدائل وما يمكن ان يسفر عنه استمرار المظاهرة وتصعيد المواجهة واتخذ قراره بناء على ذلك. ولكن المؤكد انه دفع حياته ثمن لهذا الموقف بان تم اعدامه في المجموعة الاولى من اعدامات الاخوان ديسمبر 1954. نسأل الله سبحانه وتعالى له الرحمه ومنزلة الشهداء في عليين ويجمعنا معه ان شاء الله.
والله ولى التوفيق،،