لقد وقع المفتونون والمغرّر بهم من هذه الأمّة في حبائل المؤامرة التي استهدفت تراث الإمام الصّادق عليه رحمة الله، وتبنّوا ما نَسب إليه الوضّاعون من غرائب الأقوال وعجائب الأحوال التي نَقل عنه ما ينقضها إخوته وأبناؤه وأقرانه وتلامذته ممّن عُرف بالاستقامة على الدّين والصّدق في القول.
تشرّب المغرّر بهم هذا التّراث وبنوا عليه مذهبا أسموه "المذهب الجعفريّ"، أُسّس على الغلوّ في الأئمّة الأبرار والطّعن في الصّحابة الأخيار، وعلى شذوذات فقهية نبذتها الأمّة ورفضها علماء الأمصار.
على خلاف ما يروّج له المغرّر بهم، فإنّ الباحثين من علماء أهل السنّة نقّحوا تراث الإمام جعفر الصّادق، وألّفوا الكتب والرّسائل في سيرته العطرة، وأظهروا أقواله ومواقفه التي حاول المتآمرون التستّر عليها؛ أقوال ومواقف تُثبت أنّ الإمام الصّادق –رحمه الله- كان إماما من أئمّة التّوحيد والسنّة والاتّباع؛ لا يستغيث بغير الله، ولا يدعو من دون الله ولا معه أحدا. بلغ به الحرص على صفاء التّوحيد أنّ أحد أصحابه، ويُدعى العلاء بن كامل، طلب منه أن يدعو على رجل ظلمه، فما كان من الإمام الصّادق إلا أن قال له: "هذا ضعف بك، قل: اللهمّ إنّك تكفي من كلّ شيء ولا يكفي منك شيء، فاكْفني أمر فلان بما شئت وكيف شئت ومن حيث شئت وأنّى شئت"؛ رفض أن يدعو للرّجل مع أنّ دعاء الحيّ الحاضر مشروع، لماذا؟ لأنّه كان لا يحبّ لأحد أن يتعلّق بمخلوق أيا كان، يجعله واسطة بينه وبين الله الواحد الديان.
كان –رحمه الله- ينهى أشدّ النّهي عن البناء على القبور لأنّه يعلم أنّ البناء عليها من أعظم أسباب الفتنة والتعلّق بالمخلوقين، وقد سأله سماعة بن مهران يوما عن زيارة القبور وبناء المساجد عندها، فقال: "أمّا زيارة القبور فلا بأس بها، ولا يُبنى عندها مساجد".
الإمام الصّادق يوصي بلزوم الكتاب والسنّة
كان الإمام الصّادق –رحمه الله- من أحرص النّاس على لزوم الكتاب والسنّة، ومن أكثرهم تمسّكا وتشبّثا بهما، لا يقدّم عليهما قولا ولا رأيا، وكان يقول: "ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنّة"، ويحثّ على ردّ كلّ المسائل إلى القرآن والحديث، فيقول: "كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة"، ويوصي بعرض كلّ الأقوال عليهما، فيقول: "لا يصدّق علينا إلا بما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم"، ويقول: "اتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبيّنا -صلّى الله عليه وآله-، فإنّا إذا حدثنا قلنا قال الله عزّ وجلّ وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)".
.. ويُقرّ بأنّ الأئمّة بشر ينسون ويسهون
كان الإمام الصّادق -رحمه الله تعالى- يقرّ بأنّ أئمّة أهل البيت بشر صالحون، لكنّهم غير معصومين، ينسون ويسهون ويخطئون، وكان يقول: "إنّا لنذنب ونسيء ثم نتوب إلى الله متابا"، وحينما ذكر له السّهو قال: "وينفلت من ذلك أحد؟ ربّما أقعدت الخادم خلفي يحفظ عليّ صلاتي".
يحبّ الصّحابة ويُثني عليهم ويوصي بموالاتهم
كان الإمام الصّادق –رحمه الله- يحبّ صحابة جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم حبّا جما، ويثني عليهم ويوصي بهم، وممّا أُثر عنه في ذلك قوله: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر ألفا: ثمانية آلاف في المدينة، وألفان من أهل مكّة، وألفان من الطّلقاء، لم يرد فيهم قدري، ولا مرجئ، ولا حروري، ولا معتزلي، ولا صاحب رأي، كانوا يبكون اللّيل والنّهار"، وسأله يوما رجل فقال: إنّ لي جارا يزعم أنك تبرأ من أبي بكر وعمر، فقال الإمام جعفر: "برئ الله من جارك. والله إنّي لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر، ولقد اشتكيت شكاية فأوصيت إلى خالي عبد الرّحمن بن القاسم"، وسأله سالم بن أبي حفصة يوما عن أبي بكر وعمر، فقال الإمام الصّادق: "يا سالم تولّهما، وابرأ من عدوهما، فإنّهما كانا إمامي هدى"، ثم قال: "يا سالم، أيسبّ الرّجل جدّه؟ أبو بكر جدّي، لا نالتني شفاعة محمّد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما، وأبرأ من عدوهما"، بل وأوصى رجالا من أهل العراق نزلوا عنده أياما، فلمّا أرادوا العودة قال لهم: "إنّكم إن شاء الله من صالحي أهل مصركم، فأبلغوهم عني: من زعم أنّي إمام معصوم مفترض الطاعة، فأنا منه بريء، ومن زعم أنّي أبرأ من أبي بكر وعمر، فأنا منه بريء".
.. ويحرّم اللّطم والتّطبير والمتعة
كان الإمام الصّادق عليه رحمة الله يحرّم لطم الخدود وشقّ الجيوب عند المصائب، وقد ثبت عنه أنّه أوصى عند احتضاره فقال: "لا يلطمنّ علي خدّ، ولا يشقنّ عليّ جيب، فما من امرأة تشقّ جيبها إلا صدع لها في جهنم صدع كلما زادت زيدت"، كما كان يحرّم نكاح المتعة الذي حرّمه الله ورسوله، ويبالغ في الزّجر عنه، حتى قال وهو يسأل عنه يوما: "ما يفعله عندنا إلا الفواجر".
.. ولا يخاف في الله لومة لائم
هذا هو الإمام جعفر الصّادق، الإمام الزّاهد العابد السخيّ الجواد الذي عفّ عن أموال النّاس، فلم يكن يأخذ الأخماس، بل كان ينفق ويطعم حتى لا يَبقى لعياله شيء، وزهد في المناصب وفيما في أيدي الأمراء والسّلاطين، بل كان ينهى أشدّ النّهي عن الدّخول عليهم والرّكون إلى صحبتهم، فيقول: "الفقهاء أمناء الرّسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السّلاطين، فاتّهموهم"، وكان لا يخشى في الله وفي قول كلمة الحقّ لومة لائم، أرسل إليه أبو جعفر المنصور الأمير العبّاسي يوما يقول: لو جعلت تغشانا (أي تأتينا)، فكتب إليه جعفر -رحمه الله-: لستَ في نعمة فنهنّيك بها، ولا في نقمة فنعزّيك فيها، فأرسل إليه المنصور يقول: تصحبنا لتنصحنا، فردّ عليه جعفر يقول: "الذي يريد الدّنيا لا ينصحك، والذي يريد الآخرة لا يصحبك". رحم الله الإمام الصّادق وجمعنا به في جنّات ونهر مع أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسن والحسين.