كلما تسارعت التطورات العلمية والتكنولوجية وتشعبت (لحد التعقيد في بعضها)، تناسلت الأسئلة بشأن مداها، وازدادت التساؤلات والشكوك حول امتداداتها وتبعاتها، وما قد يترتب عن تطبيقاتها في الزمن وفي المكان.
ولئن كان من الإجحاف المطلق نكران ما حملته طفرات العلم والتكنولوجيا من مزايا وفوائد للإنسان كما للطبيعة، وما كان للطفرات إياها من فضائل كبرى على نوعية الحياة في الشكل والجوهر، فإنه من الثابت القائم أيضا أن هذه الطفرات ذاتها قد أفرزت (في الآن ذاته) مخاطر وتهديدات حقيقية، غالبا ما يتم التستر عليها، أو القبول بوضعها على محك المساءلة الموضوعية والمحايدة.
لا تنعدم الأمثلة في ذلك أو تتعذر، ليس فقط للتدليل على حتمية "الأعراض الجانبية" للعديد من التطبيقات العلمية على الإنسان (في المجال الطبي والصيدلي مثلا)، أو على الطبيعة (في ما يتعلق باضطراب المناخ وتلوث البيئة أساسا)، ولكن أيضا فيما يخص الجدل الواسع الذي أججته تجارب الاستنساخ البشري (والحيواني كذلك)، وكذا الإشكالات الكبرى التي استتبعت عمليات التحويل الجيني للأعضاء والمكونات وغيرها.
هناك، فيما نتصور، ثلاثة تحديات كبرى لطالما رفعتها
التكنولوجيا في وجه الديموقراطية:
- التحدي الأول ويتمثل في خاصية الاستقلالية التي يتطلع إليها الجانب العلمي في العملية التكنولوجية، وجنوحه لتجريد العملية إياها من "إكراهات" المجتمع أو الثقافة أو الأخلاق أو ما سواها. بالتالي، فالعلم وما يترتب عنه من إبداع تكنولوجي وتطور صناعي، ليس مطالبا (أو هكذا يقدم) بأن يفكر بالضرورة فيما يفرضه المجتمع أو تقبله الثقافة أو تستسيغه الأخلاق، بقدر ما يتطلع إلى الاشتغال خارج محيطها والعمل بتجرد عن منظومتها.
ولذلك، فإن اعتراض المجتمع (كما الثقافة والأخلاق على حد سواء) على ما يستنبته العلم وتطوره التكنولوجيا، إنما يدخل في إطار من يحدد توجه الآخر، ومن يرسم الحدود القارة، ومن يسطر الخطوط الحمراء، ومن يقود العملية في صيروراتها الكبرى.
لا يبدو المستوى الديموقراطي هنا عاجزا عن المسايرة فحسب، بقدر ما يبدو موزعا بين توجهين اثنين على شفا نفيض وأكثر: فهو لا يستطيع إيقاف مد البحث العلمي والتطور التكنولوجي (إن هما تعارضا مع القيم السائدة)، ولا يستطيع المجاهرة (في الآن ذاته) بJ"ذهنيته المحافظة" إن هو ناهض ذلك، بل ولا يستطيع أيضا تحريك واقع (اجتماعي وثقافي وأخلاقي) بطيء، وفي أحيان عديدة متحجر.
- التحدي الثاني، الذي يضع الديموقراطية على محك البحث العلمي والإبداع التكنولوجي، ويكمن أساسا في قيام رجال المال والأعمال (الشركات الكبرى تحديدا) على مختبرات البحث العلمي، ومصانع التطوير التكنولوجي، وإخضاع نتائجها وتطبيقاتها لمنطق المردودية والربح، لا لاعتبارات أخرى.
لا تستطيع الآلية الديموقراطية الوقوف في وجه هذه الشركات ولا صد ضغوطات لوبياتها المتجذرة، لا بل حتى إذا تسنى لها ذلك جزئيا، فيكون غالبا من باب تأجيل التطبيقات العملية، تحت مسوغ "ضرورة اختمار الأمور ثقافيا وأخلاقيا"، أو مبرر تأطير ذلك بالنصوص والتشريعات الواجب إخراجها.
نحن بهذه الحالة، بعبارة أخرى، إنما بإزاء مجموعات كبرى ذات مصالح فئوية متشعبة، تحتكم على مصادر في القوة واسعة، أعضاؤها غير منتخبين وغير خاضعين للمحاسبة أو للمساءلة "المواطناتية"... ومع ذلك فهم الذين يقررون في حال وطبيعة وصيرورة البحث العلمي والتطور التكنولوجي، بدولهم كما بكل دول المعمور.
- أما التحدي الثالث فمؤداه التوظيف المتزايد (من لدن الدولة، كما من لدن العديد من المؤسسات الأخرى) لمخرجات التطورات التكنولوجية، بغرض التضييق على حريات الأفراد والجماعات، أو مراقبة تحركاتهم، أو التحايل على بنوك للمعطيات تخصهم، لأغراض تجارية أو اقتصادية أو ما سواها.
لا يذهب التلميح هنا فقط إلى تحريف وظيفة الإنترنت مثلا (ليصبح وإلى حد بعيد أداة استخباراتية خالصة)، ولا إلى البرامج المعلوماتية المستخدمة للتجسس على الأفراد والجماعات في حلهم وفي ترحالهم، ولكن أيضا إلى نمذجة بنوك المعطيات وترتيب الأفراد والمواطنين وفق مواصفاتهم كمستهلكين لا كمواطنين، من المفروض ألا تخترق هوياتهم أو معتقداتهم أو وضعياتهم الاجتماعية.
وعلى هذا الأساس، فإذا كان جانب الحقوق والحريات (وهو مكمن الديموقراطية وهدفها نهاية المطاف) غير مؤتمن عليه، وجانب الحق في الخصوصية غير مصان، فإن التطورات التقنو/علمية المتسارعة، وما يستتبعها من تطبيقات عملية، إنما تنبئ بأن التكنولوجيا قد أصبحت هي صاحبة القرار الأول والأخير، لا تأبه في ذلك برأي المواطن، أو بمداولات الغرف المنتخبة، أو بما قد يكون قوى ضغط مضادة من هذه الجهة أو من تلك.
ألم يقل "جاك إيلول" يوما بـ"أننا نعيش في مجتمعات صنعتها التكنولوجيا، من أجل التكنولوجيا؟".
يبدو أن الأمر كذلك حقا، إذ في غياب البعد الثقافي والوازع الأخلاقي في عمليات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والتجريب التقني، فإن العلم والتكنولوجيا يصبحان خاضعين ليس فقط لاعتبارات السوق والمردودية، بل وأيضا لمنطق في
الاقتصاد، تغدو السلعة من بين ظهرانيه مستوى مقدسا، لا قيمة في تسيده للثقافة أو للأخلاق، فما بالك بالديموقراطية؟... أليس صحيحا والحالة هاته، أن التكنولوجيا قد غدت حقا وحقيقة غريما للديموقراطية؟