تحول ما يُعرف بـــ"تنظيم الدولة" في ليبيا من مجرد مجموعات مسلحة صغيرة في مناطق معينة إلى ظاهرة خطيرة بدأت تنتشر كالخلايا السرطانية في شرق البلاد وغربها ووسطها وورّطت البلاد في حروب استنزاف داخلية قد تجرها إلى التدخل العسكري العربي أو الأجنبي و لربما التحالف الدولي تحت عنوان "مكافحة الإرهاب". فما هي استراتيجية التنظيم في اختيار أهدافه وأماكن تمركزه في ليبيا؟! و لماذا اختار التنظيم مدينتي درنة وسرت؟! وما السرّ في قوته وتمدده؟! وما هي نقاط ضعفه التي يمكن استثمارها للقضاء عليه؟!
سأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال طرح العناوين التالية:
ولايــــــة بـــرقة
اختار التنظيم مدينة درنة شرق ليبيا كأول محطة له في ليبيا إن لم يكن في شمال إفريقيا واختيار هذه المدينة جاء على الأرجح بتخطيط من خارج الحدود الليبية ولم تأت به الصدفة خاصة وأنه جاء بعد رجوع بعض من عناصر احدى كتائب التنظيم "البتّار" التي قاتلت في سوريا ثم رجعت إلى ليبيا واستقرت بمدينة درنة وكونت مع باقي المليشيات المسلحة بالمدينة من ذات التوجه ائتلاف مليشاوي استمر فترة من الزمن ثم بايع البغدادي و أخرج في النهاية ما عرف بتنظيم الدولة لولاية برقة.
لماذا اختار التنظيم مدينة درنة؟
تتميز مدينة درنة عن أغلب المدن الليبية بخاصية اجتماعية فريدة فنسيجها الاجتماعي مزيج و خليط من قبائل الشرق الليبي وغربه (العبيدات والمرابطين و مصراته وزليتن والتواجير وورفلة إضافة إلى بعض الأقليات الأخرى) انصهروا جميعاً في بوتقة واحدة في انسجام قلّ نظيره و امتزجت دماؤهم بالنسب و المصاهرة و جمعتهم الجيرة الحسنة و الصحبة الطيبة. وهذه ميزة عظيمة في أوقات السّلم صنعت التنوع و أثرت الثقافة وأذابت "القبليّة" بين مكوناتها ليغلب على المدينة الطابع الحضري.
أما في أوقات الحرب في دولة خالية من المؤسسات مثل ليبيا انقلبت هذه الميزة إلى نقطة ضعف كبيرة استغلها تنظيم الدولة لصالحه. فالقبيلة في باقي المدن حلّت محل السلطة المركزية التي انهارت عقب الثورة و ملأت جزءاً من الفراغ الأمني نتيجة سقوط النظام السابق و هو ما تفتقده مدينة درنة.
كما أن مدينة درنة على خلاف المدن الليبية الأخرى هي الأكثر ضعفاً من الناحية الأمنية حيث تخلو من رجال شرطة وجيش وأمن مما جعل الفراغ الأمني بالمدينة أكبر من غيرها من المدن بعد انهيار النظام السابق.
وما تبقى القليل من عناصر الأمن والجيش و الشرطة التي كانت موجودة بالمدينة سواء من أبنائها أو من أبناء المناطق المجاورة لها بعضهم فـرّ إلى منطقته، وبعضهم الآخر تمت تصفيته.
هل وجد التنظيم حاضنة شعبية بمدينة درنة؟
لم يجد التنظيم أي قبول اجتماعي أو احتضان شعبي بالمدينة، بل عُزل اجتماعياً وتصدى له أبناء المدينة في البداية بـ"المقاومة السلبية" والتي استمرت في ظل الغياب و التجاهل التام من قبل الدولة الليبية إلى أن وقعت المواجهة المسلحة بين التنظيم وقوات مجلس الشورى حينها انخرط أهالي المدينة مع مجلس الشورى في المقاومة المسلحة.
وقدموا لمجلس الشورى كل الدعم البشري والمادي و الإعلامي غير المحدود أثناء المواجهات المسلحة التي جرت بوسط المدينة إبان تحريرها من براثن التنظيم و ومازال شباب المدينة و رجالها يقاتلون جنباً إلى جنب مع قوات المجلس دفاعاً عن المدينة وأهلها ضد هجمات فلول التنظيم المتحصنة بالهضاب والجبال المحيطة بالمدينة.
ولايـــة طرابلـــس
لعل من الأحداث التي تفاجأ بها الكثير من المراقبين هو حدث اختيار تنظيم الدولة في ليبيا مدينة سرت الساحلية (شرق طرابلس 450 كم )و تمركزه فيها بقوة وإعلانها مدينة تابعة لـ"ولايـة طرابلس".
لقي تنظيم الدولة بمدينة سرت بعض الترحيب الشعبي في البداية وقد يبدو ذلك كرهاً في فبراير لا حباً في التنظيم . وهذا ما يمكن تفسيره بما يُفسَّر به احتضان مدينة الموصل العراقية ذات المكون السُّني لتنظيم الدولة في العراق ليس قناعةً وإيماناً بفكره و منهجه بقدر ما هو نكاية في الشيعة.
لماذا اختار التنظيم مدينة سرت؟
قامت استراتيجية التنظيم بـ"ولاية طرابلس" من خلال تمركزه بسرت على التحرك في مسارين متخالفين؛ الاول يتحرك غرباً حيث القيام بغارات متقطعة و هجمات نوعية بعضها على هيئة عمليات انتحارية "انغماسية" على مشارف مدينة مصراته المدينة الأكثر تنظيماً وقوة في الغرب الليبي و بعضها استهدف أماكن نوعية بالعاصمة طرابلس.
و بالرغم من محدودية العمليات التي نفذها التنظيم بطرابلس ألا أنها تعد مؤشر خطير على قوة التنظيم و انتشار خلاياه في البلاد و طول أذرعه القتالية التي بدأت تطرق أبواب العاصمة في غفلة من المسؤولين.
المسار الأخر يتحرك شرقاً وهو التحرك الأهم بالنسبة للتنظيم والأخطر على المستوى القومي حيث يتمدد التنظيم و يزحف ببطء نحو الموانئ النفطية الهدف الاستراتيجي الأول للتنظيم بالتزامن و التنسيق مع "ولاية برقة" بتكثيف معدلات الاغتيال بمدينة اجدابيا للتسريع بإسقاط المدينة ومن ثمة إطباق الحصار على "الهلال النفطي".
ســرّ قــوة التنظيــم ..
يستمد تنظيم الدولة في ليبيا قوته من قوة التنظيم ( الأم) بالعراق و الشام و الشهير بـ"داعش" .
ما يسمى بـ"داعش" هي في الأصل امتداد لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين إحدى بنات القاعدة الأم في أفغانستان التي هي في الأساس صناعة أمريكية استخدمتها الاستخبارات الامريكية بالتعاون مع الاستخبارات الباكستانية كأحجار شطرنج لوقف التمدد السوفيتي سابقاً في آسيا الوسطى إبّان احتلاله أفغانستان (سواء بعلم القاعدة أم بجهلها).
وُلدت "داعش" وحملت معها في جيناتها الوراثية بذور العنف الأعمى التي ورثتها من أمها "القاعدة" و ورثت جميع خبراتها و قامت بتطويرها.
واعتمدت "داعش" في إنشاء نواتها الأولى على بقايا الحرس الجمهوري (المُنحلّ) بالعراق وهم صفوة جيش صدام حسين وعلى قدر عالٍ من التدريب والفنون القتالية. كما صنعت ذراع إعلامي قوي جداً فاق في قوته الأذرع الإعلامية للتنظيمات الأخرى من بنات جنسها انتهج "أسلوب الصدمة و الترويع" في قتل الأسرى والمخطوفين وتصوير عمليات القتل "المبتكرة" والموغلة في الوحشية والتجرد من الإنسانية وبثها على "اليوتيوب" بإخراج و مونتاج محترف و تصوير عالي الجودة مصحوب بأناشيد دينية حماسية لكي يشاهدها ملايين البشر ومن بينهم "العدوّ المفترض" لهزيمته معنوياً قبل الهجوم عليه عسكريآ.
واستغلت "داعش" العالم الافتراضي حيث مواقع التواصل الاجتماعي فانتشرت فيها بكثافة لجذب المراهقين "حدثاء الأسنان " إلى صفوفها من ذوي المستوى التعليمي المتدني، أو ممن يعاني من مشاكل اقتصادية أو اجتماعية في محيطه الأسري أو داخل بلده ،و يعدهم بتحقيق الأماني.
أما في العالم الواقعي فلجأت "داعش" إلى اختيار أكثر المناطق هشاشة أمنية ليعشعش فيها التنظيم و يتكاثر بها ويستجلب لها الغرباء من كل حدب وصوب.
اكتسب تنظيم الدولة في ليبيا جميع الصفات السابقة واستغل حالة الفراغ الأمني الكبير و الانقسام السياسي العميق بين الأطراف المتنازعة على السلطة والتدهور الاقتصادي والمعيشي للسكان وتفتّت السلطة المركزية وعدم وجود قوة عسكرية موحدة على الأرض لتكون ليبيا إحدى محطاته الرئيسية.
هل نحن أمام جيل جديد من التنظيمات الراديكالية؟
منذ اللحظات الأولى لنشأة تنظيم الدولة وخروجه إلى العلن تعامل التنظيم مع أمّـه "القاعدة" مثلما كانت تتعامل "القاعدة" مع الآخرين فقد كفّرها في العراق، وقاتلها في سوريا، ونعتها بالمبتدعة في اليمن.
عودتنا التنظيمات الراديكالية على أن تتقاتل مع بعضها البعض في نهاية المطاف بعد زوال المحتل الأجنبي أو سقوط "الحكم الطاغوتي" على حد وصفهم. لكن أن تتقاتل و هي في بداية المشوار فقد يعني ذلك أننا أمام جيل جديد من هذا النوع من التنظيمات. جيل جمع كل الأفكار و المبادئ الفاشيّة و النازيـّة و أضفى عليهما الصبغة الدينية.
نقاط صعف التنظيم
مثلما أن لتنظيم الدولة في ليبيا نقاط قوة فإن له نقاط ضعف أيضاً أهمها عدم قبول المجتمع الليبي للغرباء الذين استجلبهم التنظيم من الخارج تحت أي مسمّى و استقوائه بهم على إخوانهم و تعيينهم قادة في صفوفه. إضافة إلى التجانس الديني والمذهبي للمجتمع الليبي مما يجعل عملية القضاء على هذا التنظيم ممكنة في حال توافقت القوى السياسية واتحدت في سلطة مركزية وترجمت هذا الاتحاد على الأرض بقوة موحدة تكافح هذا الخطر الداهم قبل استفحاله.