عندما انطلقت صناعة السينما، في بداية القرن الماضي، كان العبقري "شارلي شابلين" وأيقونة السينما الصامتة المخرج الروسي "سيرجي إيزنشتاين" والألماني "مورناو"، يجتهدون ليقولوا للناس وهم صامتون، في أفلام ظل وما زال العالم الفني ينهل منها إلى حد الآن، من زمن السينما الصامتة إلى زمن سينما الحركة والإثارة، بل إن الرسائل البليغة، التي وصلت من الصورة من دون كلمة، كانت أشدّ تأثيرا مما نراه الآن في سينما تهز البدن وترميه في كل الاتجاهات، من دون أن تحرك المشاعر أبدا.
وفي زمن الشعر الجميل، قال أبو تمام، وهو ملك الكلمة والكتب، ما خلّده إلى الأبد كشاعر حق: السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجد واللعب.
ولكن في زمننا السياسي الحالي، وجدنا أنفسنا بين سينما صامته وكلام من دون سينما، في مشاهد لم يجد الجزائريون في أي خانة يضعونها، بين الصمت والكلام والسيف والكتب، وصارت كل خرجة من أي شخصية، تزيد من غموض الوضع. ولعل ما أشار إليه الفريق توفيق في خرجته الإعلامية الأولى في حياته، دفاعا عن الجنرال حسان، هو ما حقق فعلا ما لم يتمنه الرجل أن يفضي تصريحه إلى تعليقات من شأنها أن تحرّفه أو تحوله عن الهدف المقصود، فحدث ذلك لأن الرجل الذي عجزت الصحف عن نشر تصريحه برفقة صورة جديدة له، قرأ أمس وسيقرأ غدا، تحليلات وتأويلات، زادت من غموض الوضع السائد في البلاد، الذي يتميز بقصص بلا صور، وصور أخرى بلا قصص، وسيكون من الصعب تحليل كلام رجل جاوز السبعين من العمر تكلّم لأول مرة، كما هو من الصعب تحليل كلام رجل آخر يتكلم في كل لحظة، في بلد اختلطت فيه الأقوال بالأفكار، وغابت الأفعال، منذ أن تكلم سعر البترول بما لا نريد أن نسمع نظاما وشعبا، وقد يكون كلام سعر النفط هو الحقيقة الوحيدة في الوقت الراهن.
وعندما يصبح مجرد كلام شخص أهم من محتوى هذا الكلام، وتصبح مجرد صورته أهم من لبّه، وتصبح سياسة البلاد مبنية على الخرجات الإعلامية وقراءة ما بين سطورها، فإننا نخشى أن نكون قد بلغنا درجة الرمي على سيارة إسعاف تنقل بلدا متخما بالجراح إلى قسم الاستعجالات، أو لا قدّر الله إلى مثواه الأخير.
لقد صنعت الجزائر دولتها منذ الاستقلال على الصمت المطبق، فكان الانتقاد يطال الصامتين على الدوام، من الذين ترك صمتهم الكثير من نقاط الظل في كل مكان، من أول رصاصة من ثورة التحرير الوطني، إلى ما بعد الاستقلال، فغادرنا رجال كثر ولا أحد عرفهم حق المعرفة، والآن عندما قرّر البعض الكلام فما بين رام هوايته الرمي، ورام في غير موضعه، وما بين رام يجهل فن الرمي أصلا.. ولكم أن تتصوروا هدفا تأتيه الرميات من كل جهة.. ولا يستطيع الرد عليها.