في
لبنان، تبقي الأمور على ماهي عليه، ولا تتزحزح مكونات الطبقة السياسية إلا بمقدار طفيف، لم تفلح كل المحاولات السابقة الرامية إلى تحقيق تغيير أساسي في بنية النظام اللبناني. وإذا كان تواجد المقاومة
الفلسطينية قبل عام 1982 قد شجع أطرافا في الحركة الوطنية اللبنانية على المطالبة بتغيير بنية النظام الطائفي، وشجع أطرافا إسلامية تقليدية على محاولة إجراء بعض التعديلات من داخل البنية الطائفية للنظام، فإن استمرار النزاع الأهلي بعد الخروج الفلسطيني من بيروت، امتد من اقتتال بين الطوائف إلى نزاع دموي داخل كل طائفة، قبل أن يستقر الأمر، وفي ظل النفوذ السوري، وبعد رحيله، إلى إعادة تشكيل الطبقة السياسية، وفق اتفاق الطائف (1989)، مع بعض التعديلات الطفيفة التي تتلاءم مع موازين القوى الإقليمية.. وإن كانت لم تتجاوز البنية التقليدية للنظام اللبناني، فإنها أسفرت عن استبدال بعض رموز الإقطاع السياسي التقليدي، بنخب نمت في ظل ظروف الحرب الأهلية، وتمكنت من استبعاد قيادات تقليدية سابقة، ولكن من ذات المنظور والانتماء الطائفي ومعادلاته.
في لبنان، يختلف اللبنانيون على كل شيء تقريبا، وهم وبحكم التركيبة اللبنانية الأكثر التقاطا وحساسية لما يجري حولهم من أحداث حتى إن اطلاق سراح الجنود الأسرى عند جبهة النصرة أثار من الجدل والنزاع حول من له الفضل فيها أكثر من الفرح بها، ما اضطر مدير الأمن العام اللبناني عباس إبراهيم إلى أن يكشف عن اتصال بين السيد حسن نصر الله وأمير قطر، وعن دعم لا محدود تلقاه أيضا من السيد سعد الحريري.
لبنان مازال مقسما بين معسكرين يحظيان باستقطاب واسع بين الجمهور، ويعطل انتخاب رئيس للجمهورية التي انتقلت صلاحياته في ظل شغور المقعد الرئاسي إلى مجلس الوزراء، وتلاحقة مشكلات متعددة ناجمة عن التصاقه التاريخي بالشقيقة سوريا، وتدخل بعض مكوناته في حربها المشتعلة، تحت ذرائع مختلفة أقلها حماية محور المقاومة، في الوقت الذي يعجز فيه عن إيجاد أماكن لطمر نفاياته التي تراكمت لفترة طويلة في شوارعه.
وتفتق الحل العبقري عن رفض كل طائفة أن تدفن نفايات الآخرين في منطقتها، وكأن لسان حالها يقول بأن كل أولى برائحته، في الوقت الذي كشف الحراك الشبابي الطموح عن فضائح وفساد كبير في ملف النفايات، أقلها أن كلفة التخلص من النفايات في لبنان تزيد 70 دولارا في الطن الواحد عن الكلفة العالمية، وكان يتقاسم هذا الفارق مسؤولون في المخابرات السورية في لبنان مع متنفذين أخرين.
في لبنان، الكل مهموم ومشتغل في السياسة، إذا جلست في مقهى تستمع مرغما عنك إلى حوار صاخب على الطاولة المجاورة، كما لا يبخل عليك سائق التكسي الذي يقلك بآرائه ونظرته إلى ما يجري في لبنان والمنطقة بأسرها.
اللافت في الأمر أن النخب المثقفة، في غالبيتها، بمن فيهم أولئك الذين سبق لهم وأن كانوا رفاقا في النضال وتجمعهم تنظيمات وأحزاب واحدة تتجاوز نظرتها الواقع المحلي إلى رؤى عالمية تنادي بالحرية والعدالة، قد جذبتهم مناطقهم وطوائفهم، منذ أن عزز الوجود السوري في لبنان التركيبة الطائفية عوضا عن فصائل الحركة الوطنية، فصاروا يعبّرون عن مصالحها بطريقة أكثر ثورية مستمدة من خبراتهم السابقة، مع محاولة منحها تنظيرات سياسية تقنعهم بأنهم ومن موقعهم الجديد ما زالوا أوفياء لماض نضالي قديم.
لكن لبنان القديم الجديد وخلافاته وطوائفة ومناكفات أبنائه وحواراتهم الحادة يتضاءل عندما تحتل فلسطين واجهة الأنباء، وشهدت ذلك عند الجميع وفي لقاءات عمت كل المناطق اللبنانية، لم أسمع خلالها رأي مختلف عن الآخر، حتى تكاد تحسب أن لبنان باسره قد توحد حول فلسطين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وأن أولئك الأخوة والرفاق قد تخلصوا من المناطقية والطائفية والمذهبية بلمحة عين، وعادوا جميعا إلى سيرتهم الأولى. وعندما حدث التفجير الإرهابي في برج البراجنة، وحاول نفر قليل الإيحاء بأن الإرهاب التكفيري قد انطلق من المخيم الفلسطيني القريب، تصدى له الجميع بسرعة ووضوح، وشوهدت قيادات متعددة في مكان التفجير تنفي مثل ذلك، وتمنع بذلك اندلاع فتنة كبرى، وهو ما أكدته تحقيقات الأمن اللبناني الذي تمكن وبسرعة قياسية من إلقاء القبض على باقي أفراد الشبكة الإرهابية.
يقودنا هذا إلى الحديث عن أوضاع المخيمات الفلسطينية في لبنان وسكانها، إذ ما زال الفلسطينيون في لبنان يعانون من حرمانهم من الحقوق الأساسية في العمل، ولم تفلح محاولات وزير العمل اللبناني الأسبق طراد حمادة في منحهم مثل هذه الحقوق، إذ لا يستطيع الفلسطيني اللاجئ في لبنان أن يعمل طبيبا أو مهندسا أو محاميا أو صيدلانيا إضافة إلى عشرات المهن الأخرى.
رأيت ابن صديق في مخيم القاسمية قد تخرج قبل ثلاث سنوات من أعرق الجامعات، ولم يستطع أن يعمل خلالها سوى بضعة أشهر في إحدى منظمات المجتمع المدني، وحتى هذه جاءها قرار بأن لا تزيد نسبة العاملين الأجانب عن 3%، فكان أن فقد وظيفته، وهو الآن يفكر بالهجرة، بعد أن سدت في وجهه كل الفرص الممكنة.
وفي حوار مع السفير الفلسطيني في لبنان السيد أشرف دبور وآخرين من القيادات الفلسطينية، سمعت أرقاما مرعبة عن معدلات الهجرة الفلسطينية من المخيمات، فمن أصل 90 ألف لاجئ فلسطيني قدموا إلى المخيمات الفلسطينية من سوريا هاجر منهم نحو 60 ألف، أما معدل هجرة أبناء المخيمات فلا تقل عن 5 آلاف شاب شهريا، مما خلق مشاكل اجتماعية متعددة من أبرزها العنوسة التي يحاول البعض حلها عن طريق الزواج المبكر، حيث ترتبط الفتاة صغيرة السن بالشاب المهاجر، وتبقى في انتظاره لحين استقراره في بلد المهجر، وتمكنه من إحضارها بعد ترتيب أوراقه الشرعية الأمر الذي قد يستغرق سنين عدة .
طرق الهجرة ومنافذها متعددة، بدأت عبر السودان ومنها إلى أجدابيا في ليبيا، فركوب مخاطر البحر مع المهربين إلى الساحل الإيطالي، وهي طريق خطرة قتل عبرها عدد من اللاجئين، أو عبر شراء تأشيرات دخول إلى تركيا من خلال سماسرة معروفين بحيث وصل ثمن تأشيرة الدخول التركية إلى 2000 دولار، مع أن رسمها الأصلي لا يتجاوز 60 دولارا، ومن تركيا وب500 دولار يتم تهريبه إلى جزيرة يونانية أقيم بها مركز إرشاد للمهاجرين ترعاه اليونسيف، يرشد الشباب إلى أفضل الطرق للوصول إلى البلدان الأوروبية، ويزودهم بالخرائط اللازمة لعبور صربيا والمجر والنمسا قبل الوصول إلى ألمانيا.
وثمة طريق آخر اعتقد البعض أنه أقل كلفة عبر التوجه إلى دمشق برا، ومن ساحة المرجة فيها، يتم الاتفاق مع سماسرة على نقلهم بالباصات إلى الحدود التركية مقابل ألف دولار، يوزع جزءا منها على حواجز النظام والمعارضة في الطريق الطويل، وكثيرا ما يخل أحد الحواجز بالاتفاق، ويصادر من المهاجرين أغلب ما يملك من نقود.
وحديثا اهتدى الشباب إلى طريق جديد عبر روسيا أقل كلفة، إذ يتم الحصول على تأشيرة سفر عادية، وهنالك يتم تهريبهم إلى النرويج عبر القطب الشمالي، حيث يتم إيداعهم في معسكر إيواء لمدة 3 أشهر، قبل أن يتم تقرير مصيرهم، أما من لا يملك تلك النقود اللازمة للهجرة فيلجأ إلى ميناء طرابلس في الشمال، أو الصرفند في الجنوب، ليتم تهريبه إلى اليونان عبر قوارب صغيرة، غالبا ما يتم اكتشافها من خفر السواحل اللبناني، لتتم إعادتهم إلى مخيماتهم بعد توقيفهم بضعة أيام.
هي طرق يتحكم السماسرة والمهربون في معظمها، وتنذر بتفريغ المخيمات الفلسطينية في لبنان من أهلها، ويسرع فيها انعدام فرص العمل للفلسطينين وانسداد أفق الحياة الكريمة أمامهم، وحتى وقت قريب لم تكن السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية تعطي المخيمات في لبنان الاهتمام الذي يستحق، إذ اعتقدت أنه يمكن ببساطة تسليم الأمن في المخيمات الفلسطينية لقوى الأمن اللبنانية، وتسليم السلاح المتبقي للسلطات، وغاب عنها تعقيدات الوضع اللبناني وتداخلاته وعدم جاهزيته لمثل هذه الخطوات، وترافق ذلك مع تهاون السلطات الفلسطينية في حل مشكلات الحقوق الاجتماعية والإنسانية للاجئ الفلسطيني، وفي مقدمتها حق العمل، مع تدني الخدمات الاجتماعية والصحية المقدمة داخل المخيمات، وحسبنا أن نذكر هنا أنه ونتيجة انخفاض قيمة الليرة اللبنانية في الحقبة الماضية، وعدم تعديل الرواتب بما يعادل هذا التراجع، فقد هبط راتب أسرة الشهيد إلى ما يعادل 20 دولارا فقط، ومثله رواتب العاملين في الدوائر المختلفة.
لم تلتفت السلطات الفلسطينية إلى هذا الأمر إلا حديثا، بعد أن شهدت مخيمات الشمال سيطرة مجموعات فتح الإسلام على مخيم نهر البارد، مما أدى إلى تدمير المخيم كاملا وتهجير سكانه، وبعد أن تحول مخيم عين الحلوة في الجنوب إلى مربعات منقسمة، تعج بالحواجز والمتاريس التي يتحصن خلفها مجموعات تكفيرية مختلفة، تؤوي العديد من المطلوبين اللبنانيين للسلطات على خلفية أحداث وقعت خارج المخيم، مما جعل مخيم عين الحلوة يكاد يواجه مصيرا مماثلا لنهر البارد.
ساعد على الوصول إلى هذه الحال تخلي السلطات الفلسطينية عن مسؤولياتها الأمنية والاجتماعية لفترة كبيرة من الوقت، مع أن المسؤولين الفلسطينيين يؤكدون ألآن أنهم قد انتبهوا إلى خطورة ما يجري على صعيد المخيمات، وأنهم قد اتخذوا الإجراءات اللازمة لمعالجته، خصوصا في مخيم عين الحلوة، التجمع الفلسطيني الأكبر في لبنان، وتجنيبه مصيرا مماثلا لمصير مخيم نهر البارد، إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة نتيجة تشرذم واختلاف العاملين في حركة فتح، ودخول محمد دحلان على خط المخيمات من بوابة المساعدات الإجتماعية وبعض الكوادر في صيدا وبيروت، وتراجع أداء الفصائل الفلسطينية، وتأثيرات الانقسام الفلسطيني المستمر، إضافة إلى تداخلات الوضع اللبناني والأجهزة اللبنانية في الوضع الفلسطيني وانعكاس خلافاتهم عليه.
في حرب 2006 احتضنت المخيمات الفلسطينية مئات العائلات الجنوبية في منازلها، كما أقيمت مراكز إيواء في المدارس ، ووضعت سيارات الإسعاف وطواقمها بتصرف المقاومة، في الوقت الذي تكفلت فيه مخابز مخيم الرشيدية بتوفير الخبز اليومي للمقاتلين والأهالي، وعزز ذلك من الألفة القديمة بين المخيمات وأهل الجنوب اللبناني، وساهم في تبديد بعض السحب التي كانت عالقة من مرحلة مضت، وأثبت ذلك أن مواجهة العدو الصهيوني توحد الجميع وتجب ما قبلها من سلبيات وشكوك وخلافات، تماما كما يجمع اليوم كل رفاق الأمس على موقف موحد من فلسطين وانتفاضتها.
على أن ذلك يستلزم نظرة أبعد من مختلف القوى، لا أظنها قد تبلورت بعد، أو خرجت حتى الآن عن الإطار السياسي النظري ، تجاه ما ينبغي عمله إزاء تطورات الانتفاضة على الساحة الفلسطينية، وفي يقيني أن من شأن هذه الانتفاضة المباركة أن تعيد فلسطين قضية مركزية للأمة العربية، وقد تكون طوق النجاة باتجاه الخلاص من الفتن والانغماس في الحروب الأهلية، وتسرع اللجوء إلى الحلول السياسية الداخلية كوسيلة وحيدة للحفاظ على وحدة الأمة بكل مكوناتها، بعيدا عن الاستبداد والتكفير والإقصاء والفساد، تمهيدا لمواجهة خطر أعم وأشمل، وحينها علينا أن نترقب دورا مختلفا للبنان ولجنوبه باتجاه فلسطين.