يعود اهتمام المفكرين وعلماء السياسة بـ(الظاهرة العسكرية) إلى عهود قديمة فقد نظر أفلاطون نظرة دونية إلى نظم الحكم التي تستند إلى أساس واحد من الأسس (الأربعة) المشهورة: القوة (أي الجيش) والثروة والعدد (الديمقراطية) والكاريزما (النظام الشخصي)... أفلاطون لم يكن يعلم بالدور المرعب لأجهزة الإعلام في تفريغ فكرة الديمقراطية من محتواها الحقيقي...ولا دورها في صنع (الزعيم الكاريزمي) الذي يتحول إلى (صنم) العصور الحديثة ..
أرسطو بدوره كان يرى أن النظام السياسي يستند إلى قاعدتين: (العسكريون)من ناحية و(المشرعون) من ناحية أخرى.. ابن خلدون المنظر التاريخي (لدولة العصبية)_سامحه الله _كان يرى أولوية القلم (الفكر والتشريع) على السيف خصوصا بعد استقرار نظام الحكم.. لكن هذا لم يحدث وحتى اذا اقترب القلم من السيف غالبا ما يخون القلم أمانته ويستعلي بالسيف (المعتزلة والمأمون نموذجا).
ولم يقتصر اهتمام العلماء بالعسكريين فقط على دراسة دورهم في النظام السياسي وعلاقتهم ببقية القوى السياسية فيه وإنما امتد كذلك إلى تصنيف النظم السياسية و الاجتماعية ما بين نظم (ديمقراطية) يقف فيها الجيش على (الحياد )ويؤدي وظيفة عسكرية احترافية.. وبين نظم (بوليسية) يتولى فيها العسكريون
السلطة باعتبارهم المتخصصون في العنف.. ويمنحوا الدولة احد اهم وأسوأ تعريفاتها (صاحبة الحق في العنف المشرعن).
سنكتشف في أدبيات اليسار أن (لينين) كان يرى أنه (لا يمكن اعتبار القوات المسلحة محايدة وينبغي ألا تكون و أن عدم جذبها إلى السياسة هو شعار خدم البرجوازية والقيصرية والمنافقين الذين يجذبون القوات المسلحة دائما إلى السياسة الرجعية) ولعل هذا يفسر مواقف اليساريين والقوميين-بعد أن أعادوا (تموضعهم)- ما يحدث الأن في وطننا الحبيب ...بغض النظر عن ادعاءاتهم (الديمقراطية) التي سقطت سقوطا مريعا في أول اختبار قومي (من التمجيد النظري للحرية إلى الغوص في العبودية السياسية المطلقة).
كثير من الباحثين يرون أن هناك ذرائع وأسباب تدعو العسكريين إلى التدخل المباشر في السياسة وهى:
1 ـ ضعف المجتمع وغياب فكرة التماسك الاجتماعي.. حيث المؤسسات القوية والأحزاب التاريخية والنقابات والجمعيات الأهلية.. سيظل غياب السياسة والتنشئة السياسية وإبعاد فكرة الدولة الديمقراطية المنفذ الكبير للجيوش في اعتلاء ناصية السياسة.
2 ـ التفكك الطبقي وقد شهدت أوروبا ذلك خلال مراحل تطورها الأولى(التراكم الكمي لتجربة الديمقراطية السياسية) و استطاعت تطوير بنيانها الاجتماعي والطبقي في أعقاب الثورة الصناعية بصورة اتضحت معها خطوط التمييز بين الطبقات المختلفة...يقولون أن أهم أسباب رسوخ الديمقراطية الإنجليزية هو رسوخ التكوين الطبقي في المجتمع وفتح مسارات الحراك الطبقي لكل المواطنين.
3 ـ تدهور مستوى العمل الاجتماعي والتنموي والعجز عن تعبئة الموارد اللازمة لعملية التحديث والتقدم حين تفشل الدولة في إيجاد رموز وخطط عامة للعمل الاجتماعي وحينها تفتقد ـ نتيجة ما سبق ـ للتأييد.
4 ـ انهيار وتدهور السلطة السياسية إلى درجة (انكشاف النظام السياسي). الجيش في هذه الحالة يستهدف إعادة بناء السلطة السياسية على نفس النسق التاريخي التي كانت عليه !! عادة ما يرتبط انهيار السلطة السياسية بغياب الطبقة المتوسطة وضعف تواجدها السياسي في المجتمع أو بالأحرى غيابه ..و من ثم ينهار التوازن السياسي القائم ويحاول الجيش قيادة النظام السياسي إلى توازن جديد ..تاريخيا.. يجب أن نضع في الاعتبار أن انهيار السلطة السياسية لا يعني بالضرورة انقضاض الجيش على تلك السلطة ...قد يقف مراقبا ومشيرا وناصحا.. أو حتى حكما بين الفرقاء، إلى حين استعادة العافية السياسية للدولة والمجتمع.
قد يكون حسن النية وراء العسكريين وهم ينظرون إلى السياسة في بلادهم باعتبارها أحد المجالات التي يمكن أن يدلوا فيها بدلوهم خاصة اذا كانوا يشعرون (بأبوة مانحة.. يوليو 52).. بالإضافة إلى مهمتهم الأصلية المتعلقة بالدفاع والأمن وهم ينطلقون في ذلك من قناعتين تتعلق الأولى بأنهم أقدر من المدنيين كافة في إقامة النظام وتحقيق الاستقرار.. وتتعلق الثانية بعدم ثقتهم في فاعلية الجماهير وكفاءتها.
ستنبئنا تجارب التاريخ أنه.. إذا أراد العسكريون _بحق _الإسهام في (التنمية السياسية) في أوطانهم فعليهم الاعتصام والمرابطة في ثكناتهم وإتاحة الفرصة للمدنيين والسياسيين للقيام (بواجب الضرورة) وتحمل مسئولياتهم السياسية والتنظيمية أسوة بنظرائهم في الدول المتقدمة وتحقيق فكرة (التراكم التاريخي) للتجربة الديمقراطية وتحولها النوعي من الحالة الكمية إلى حالة الكيفية تماسكا واستقامة وتدرجا شرط أن تكون النوايا صادقة...فكما أن الشمس كي تنتصف السماء لابد أن يكون هناك فجر وصبح وضحى وظهيرة ..كذلك لن تتوسط الديمقراطية سماء حياتنا _بكل إشراقتها في النزاهة والتعددية والمراقبة والمساواة_ قبل أن تمر بمراحل الاكتمال الطبيعي . كذلك فتح الباب واسعا للتعريف الكامل لثقافة الديمقراطية ..بما يتجاوز بكثير تطبيقاتها في السياسة والحكم.
تجارب التاريخ أيضا علمتنا أن تبوء العسكريين للسلطة المدنية.. يغريهم بالتمادي في الإمساك بها ورفضهم القاطع التنازل عنه.. ذلك أن حالة التراتب والتنظيم الهيكلي بين مستويات القيادة بدء من أصغر الرتب إلى أعلى مستويات القيادة وما يحمله كل ذلك من مزايا وخصائص وصفات وما يترتب عليه من ضبط لطبيعة العلاقة مع الآخرين ..كل هذه الأشياء المركبة تجعل من فكرة التنازل عن المنصب طواعية.. فكرة بعيدة المنال.
يجب أن تكون الجيوش بما تحمله من دلالة رمزية كبرى في وعينا الوطني قبضتنا المرفوعة على العدو الذي يتهددنا.
لا قبضتنا المرفوعة علينا كما راينا في ظل الدولة القومية الحديثة.