يتحدّث كثيرون مؤخرا عن معالم انتقال القوّة والثروة في العالم من الغرب إلى الشرق، وبالرغم من أنّ الظاهرة تبدو صحيحة إلى حد كبير، إلا أنّ الاعتماد عليها للقول بأنّ هناك نظاما عالميا جديدا ينبثق من النظام العالمي القديم الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية هو أمر غير دقيق في أحسن الأحوال.
ما نشهده الآن ليس مرحلة انتقالية بين نظام وآخر، نحن نشهد انتهاء معالم النظام القديم دون أن يكون هناك أفق أو مسار باتجاه نظام جديد ودون أن يكون هناك قوّة تقود مثل هذا التحول إن كان يجري، وهو ما يقودنا للحديث عن الفوضى في حقيق الأمر أكثر من الحديث عن النظام.
الأمم
المتحدة منظمة مهترئة الآن وغير قادرة على مواكبة التحديات العالمية وتستنجد بالاشتراكات والتبرعات المالية لتبقي مؤسساتها على قيد الحياة، وقد تحوّل أمينها العام إلى رمز لمهزلة "القلق" المستمر دون القدرة على فعل أي شيء باستثناء المراقبة وإبداء القلق. أمّا مجلس الأمن الذي يمنح لنفسه سلطة التدخل في مناطق مختلفة من العالم إذا ما شعر أن هناك حالات تهدد الأمن والسلم الدوليين فهو مشلول تماما في وقت من المفترض فيه أن يكون في أوج فعاليته، وأعضاؤه يستخدمونه أداة لتحقيق مآربهم الخاصة كلّ حسب مصلحته.
الولايات المتّحدة الأمريكي التي يقودها رئيس مهووس يختبئ تحت عباءة المثالية ليغطي سلوكه الضعيف يعتقد أنّ التقرّب من الأعداء أو المنافسين سيمنحهم الطمأنينة ويحفّزهم على المشاركة في تحمّل المسؤوليات العالمية ويدفعهم إلى التعاون من أجل حل المشاكلة الاقليمية والدولية، وهو يرى أن التقرب منهم لا يتم عبر الجسر الهوة بتنازلات من الطرفين وإنما بالتنازل لهم عمّا يريدون وبتجاهل هواجس ومصالح الحلفاء التاريخيين. هذا الوضع أدى ويؤدي إلى حالات ارتباك وتضارب بين الولايات المتحدة وحلفائها القتليديين في مناطق مختلف من العالم لاسيما في الشرق الأوسط وشرق آسيا وأفريقيا.
الأوروبيين عمليا ليسوا قوة عسكريّة وبعد أن فقدوا جزءا كبيرا من قوّتهم الاقتصادية نتيجة تدهور وضع عدد من البلدان المنضوية تحت مشروعهم الأوروبي أصبحوا في وضع العاجز عمليا على الصعيد السياسي وهم لا ينظرون أبعد من انفهم ويعتقدون بسذاجة بالغة أنّ المشاكل في محيطهم في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا لن تصلهم، وأكثر ما يريدون فعله هو محاولة إطلاق بعض البرامج الانسانية.
الصينيين ليسوا معنيين على الأقل الآن بالتحول إلى قوة عالمية على الصعيد السياسي، هم يرون في مثل هذا التحوّل خطرا عليهم لانه سيحمّلهم تكاليف مسؤوليات دولية هم بغنى عنها، جل همّهم زيادة حجم اقتصادهم وتطوير قدراتهم العسكرية وفرض هيبتهم عبر التوسع في محيطهم الإقليمي في شرق آسيا. ولذلك هم لا يبحثون عن ملئ لفراغ سياسي أو عسكري تتركه الولايات المتّحدة الأمريكية في مناطق مختلفة من العالم لكنه بالطبع يبحثون عن ملء فراغ اقتصادي إن وجد.
الروس لاعبو روليت، لا يملكون المؤهلات ولا القدرات التي تخوّلهم أن يقودا مناطق واسعة من العالم لكنهم للأسف يمتلكون قنابل نووية وهو ما يجعلهم أكثر وزنا حقيقة مما هم عليه. دورهم الأساسي يقتصر على تخريب المشاريع الإقليمة أو الدولية التي تتجاوزهم وعرقلتها لفرض أنفسهم كنعصر أساسي في معادلتها.
هذه القوى لا تمتلك حقيقة رؤى صحيحة للمشاكل التي يعاني منها العالم وحتى وإن فعلت فإن طريقة معالجتها لها لا تؤدي إلا إلى مزيد من الخراب والدمار. عليكم بمنطقة الشرق الأوسط للتأكّد من هذا الادعاء الذي أقوله. لقد تحوّلنا إلى حقل تجارب للآخرين ليس أكثر. البعض ينظر إلينا أيضا على أنّنا ساحة لستجيل نقاط ضد المتنافسين والبعض الآخر ينظر إلينا على أننا أوراق في لعبة القمار التي يلبعونها والبعض الآخر ينظر إلينا على أننا أحجار على رقعة الشطرنج الدولية.
ما نحصل عليه هو مزيد من الفوضى، ميد من حركات التطرّف المسلّح، مزيد من ظاهرة الدول الفاشلة، مزيد من جيوش الميليشيات الطائفية العابرة للدول والحدود، مزيد من التراجع الاقتصادي وتراجع الحريات وتراجع الأمن والاستقرار، والمشكلة الأكبر أنّ هذه الفوضى لا ترسم على ما يبدو ملامح مرحلة الانتقال من نظام إلى آخر بدقر ما ترسم حتى الآن معالم الفضوى المطلقة والبقاء للأقوى.