لم تكن
الانتخابات البرلمانية
المصرية الأخيرة سوى المسمار الأخير في نعش حزب
النور السلفي، إذ إن هذا الحزب بدأ بالانتحار "السياسي" عمليا في يوم الثالث من يوليو 2013، عندما رضي بدور المحلل "الديني الإسلامي" للانقلاب، جنبا إلى جنب مع المحلل "الديني المسيحي" ممثلا ببابا الأقباط الذي كان حاضرا هو الآخر في مشهد ذبح الديمقراطية الوليدة في مصر.
النتائج الصفرية التي حققها الحزب في الجولة الأولى من المرحلة الأولى للانتخابات كانت متوقعة، ولم يتفاجأ بها سوى منظر الحزب وعرابه والرجل القوي في "
الدعوة السلفية" ياسر
برهامي ورجاله، الذين تحدثوا صبيحة يوم الانتخابات عن "حشود مليونية" للتصويت "نكاية بالإخوان"، كما قال أحد قادتهم، أما المراقبون لمسيرة الحزب منذ تأسيسه بعد أشهر من ثورة يناير، فقد كانوا على يقين من انهيار الحزب القريب، بل كتب الكثيرون حول هذا الانهيار وأسبابه حتى قبل إعلان موعد الانتخابات البرلمانية الصورية.
وعلى الرغم من أن النتائج الأولية للانتخابات وما تبعها من "عتاب المحبين" من قيادات النور للسيسي تدلل بشكل واضح على انهيار الحزب، إلا أن الدلالة الأكثر أهمية للنتائج وما سبقها من أحداث هي انهيار واضمحلال الجماعة الأم التي ولد من رحمها حزب النور، وهي "الدعوة السلفية" التي نشأت في الإسكندرية وانتشرت في كافة مدن ومحافظات وقرى مصر بشكل واسع، في حالة نادرة لم تشهد لها مصر مثيلا سوى في جماعة الإخوان المسلمين التي انتشرت هي الأخرى في كافة أنحاء الجمهورية.
لقد استطاعت الدعوة السلفية أن تحقق قاعدة شعبية عريضة خلال أربعة عقود من تأسيسها على أيدي مجموعة من دعاة السلفية في الإسكندرية، لتصبح خلال هذه العقود جماعة تمتلك عددا هائلا من المؤسسات والمعاهد العلمية مثل معهد الفرقان الذي يخرج حوالي 500 طالب سنويا، والعمل الدعوي شبه المنظم في المساجد، ومؤسسات العمل الخيري التي تنتشر في كافة أنحاء مصر، إضافة للعمل الطلابي الذي وصل لتأطير عشرات الآلاف من الطلاب، وكان يعمل على إدارته في العام 2013 مثلا أكثر من 1300 مدرس وإداري من الدعوة السلفية.
وخلال السنوات التي سمح فيها بالعمل الجامعي للجماعات الإسلامية في مصر؛ تبوأت الدعوة السلفية موقعا جيدا في هذا العمل، ونشطت بشكل مستقل أحيانا، وبالتعاون مع طلاب جماعة الإخوان أحيانا أخرى، وعملت في مجال معارض الكتب والخدمات الجامعية ودعم الطلاب الفقراء، وغيرها من النشاطات التي أعطت "الدعوة" شعبية وقاعدة شعبية عريضة.
وخلافا لجماعة الإخوان، فقد ابتعدت "الدعوة السلفية" عن العمل السياسي حتى سقوط مبارك، ونظر شيوخها لهذا الابتعاد أيديولوجيا، لأسباب قال نائب رئيس الدعوة برهامي حينها (هل يعرف أحد من هو رئيس الدعوة بالمناسبة؟!) إنها تتعلق بارتفاع الخسائر من المشاركة السياسية بمقابل مكاسب بسيطة لا تستأهل التضحية والمشاركة، حيث إن الدعوة ستضطر "للتخلي عن مبادئها" لأجل المشاركة في عملية سياسية ديكورية وغير حقيقية، بحسب برهامي ومنظري الدعوة.
ولكن برهامي عاد بعد الثورة للتنظير للمشاركة السياسية، وعمل على تأسيس حزب النور الذي لم يعلن في البداية أنه تابع للدعوة السلفية، قبل أن يعلن رسميا أن الحزب هو التشكيل السياسي للدعوة، وأن الأخيرة ستدعم النور في الانتخابات البرلمانية الأولى التي أجريت بعد الثورة في نهاية العام 2011 ، وبذلك فقد دخلت الدعوة السلفية طورا جديدا غير مسبوق في تاريخها، سيؤدي فيما بعد إلى خسارة استراتيجية لها بسبب المسار الذي اختطه الحزب بقيادة فعلية من برهامي.
وعندما نقول بأن الدعوة السلفية هي التي خسرت وليس الحزب فقط، فإن ذلك يستند على حقيقة أن نجاح الحزب الجديد بعد الثورة بحصد أكثر من 25 بالمئة من مقاعد البرلمان لم يكن نجاحا للحزب في الواقع بقدر ما هو نجاح للدعوة السلفية، التي دفعت بكل ثقلها ومؤسساتها وقدراتها على الحشد وجماهيرها لإنجاح الحزب، وهو ما يعني أن خسارة الحزب مؤخرا هي أساسا خسارة للدعوة؛ إذ لم تعد هذه الجماعة قادرة على حشد المؤيدين والجماهير خلف رؤيتها السياسية، ولم تعد تمتلك قاعدة شعبية تؤهلها لإنجاح حزبها بالحصول على مقعد واحد في البرلمان.
إن نجاح أي حركة اجتماعية في العالم يقوم على أمرين أساسيين: الإيديولوجيا، والقدرة على الحشد وكسب الأعضاء والمؤيدين، وقد استطاع ياسر برهامي خلال أربع سنوات القضاء على هذين الأساسين.
فعلى صعيد الإيديولوجيا، أنهى برهامي أحد أهم الأسس الأيدولوجية المنشئة للدعوة السلفية، وهو الانتماء للتيار الإسلامي الحركي المحافظ الذي يغلب مبدأ عدم المشاركة السياسية إذا كانت احتمالات الخسائر أكبر من المكاسب من هذه المشاركة، إذ إن إصراره على حضور "النور" في مشهد الانقلاب، ومشاركته فعليا بتبرير قتل الأبرياء من خلال دعمه لانتخاب
السيسي المسؤول الأول عن قتلهم، ثم في مشاركته الديكورية في الانتخابات الأخيرة، اضطر الحزب لدفع الكثير من مبادئه بهدف الاستمرار بالوجود في العملية السياسية والرغبة بالحلول مكان الإخوان.
أما على صعيد القدرة على الحشد وزيادة القاعدة الشعبية، فقد أعلنت الانتخابات الأخيرة نهاية مرحلة تاريخية بالنسبة للدعوة السلفية، بعد أن امتنع شيوخ السلفية التقليديون المستقلون والمؤثرون بالشباب السلفي عن الدعوة لدعم وتأييد حزب النور بالانتخابات، وهو ما أدى لخسارة الحزب المدوية، وخسارة نائب رئيس الدعوة السلفية والجاني الرئيسي بحقها، الذي اعترف أنه لم يستطع حتى إقناع ابنه بالذهاب للتصويت لمرشحي حزبه في الانتخابات!