شخصية جدلية، أصاب في بعض قراراته وأخطأ في بعضها.. المؤيدون له يرون فيه شخصية وطنية صلبة لعبت دورا هاما في النضال الفلسطيني لنحو خمسين عاما، فيما يرى النقاد أنه أضر بالقضية الفلسطينية عبر تحالفاته الدولية، خصوصا مع دول "المحور" في الحرب العالمية الثانية وخوضه في صراعات محلية وعربية.
ألصق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو به تهمة تحريض
هتلر على "حرق اليهود" في مقاربة مثيرة للسخرية، قائلا: "يجب أن نظهر للعالم أن آباء الشعب الفلسطيني كانوا يريدون القضاء على اليهود؛ حتى قبل قيام دولتنا، وظهور مشاكل الاحتلال والمستوطنات".
هلوسة نتنياهو الأخيرة وتزويره للتاريخ على هذا النحو الصفيق والمضلل كانت أشبه بطوق النجاة لهتلر وللنازيين، وأشبه بهدية للمؤرخين والسياسيين الذين ينكرون "المحرقة اليهودية " أو ما يسمى بـ"الهولوكوست".
تصريحات لم تضر كثيرا بالفلسطينيين؛ فهم واقعون منذ عام 1948 وحتى اللحظة تحت نيران "محرقة" إسرائيلية، والتصريحات الأخيرة لنتنياهو تشير إلى "محرقة" كبرى يخطط لها ضد الفلسطينيين الذين يدفعون ثمن أكبر "أسطورة وصناعة" في التاريخ وفقا لمؤرخين يهود.
المتهم بـ"اللعب بعقل هتلر" هو الحاج
أمين الحسيني، أو المفتي المولود في القدس عام 1895 لعائلة ميسورة عدد أفرادها ثلاثة عشر شخصا تولوا مناصب إدارية وسياسية في القدس. وكان قد أدى فريضة الحج وله من العمر ستة عشر عاما مع والدته، فاكتسب لقب "الحاج" من حينها.
تلقى تعليمه الأساسي في القدس، وأدخله والده "مدرسة الفرير" لمدة عامين لتعلم الفرنسية، ثم أُرسله إلى "جامعة الأزهر" ليستكمل دراسته، والتحق بكلية الآداب في "الجامعة المصرية"، ودرس في مدرسة محمد رشيد رضا (دار الدعوة والإرشاد).
نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914، فلم يستطع العودة لاستكمال دراسته، فذهب إلى إسطنبول بتركيا ليلتحق بالكلية العسكرية، وتخرج برتبة ضابط صف في الجيش العثماني، وترك الخدمة لاعتلال صحته بعد ثلاثة أشهر فقط من تخرجه، وعاد إلى القدس.
أسس ورأس "النادي العربي" عام 1915، وهو أول منظمة سياسية عرفتها فلسطين، وانطلقت منها الحركة الوطنية الفلسطينية، ثم عمل معلما بمدرسة "روضة المعارف الوطنية".
وما لبثت القوات العربية والبريطانية أن سيطرت على القدس عام 1917، فالتحق بـ"الثورة العربية الكبرى" التي أطلقها الشريف الحسين بن علي عام 1916.
شارك الحسيني في العمل الوطني الفلسطيني منذ نهاية الحرب العالمية الأولى؛ فشارك في عقد "المؤتمر العربي الفلسطيني الأول" عامي 1918 و1919، والمظاهرات الفلسطينية في عام 1920، واتهمته سلطات الانتداب البريطانية بأنه وراء هذه المظاهرات فاعتقلته، وهاجم شباب القدس القافلة البريطانية المشرفة على ترحيله للسجن، ومنها هرب إلى سوريا، وحكم عليه غيابيا بالسجن 15 عاما، وتحت ضغط الغضب الفلسطيني عفي عنه.
وبعد عودته بأشهر يُتَوفَى شقيقه مفتي القدس، فيتولى منصب المفتي العام للقدس عام 1921، وهو ابن خمسة وعشرين عاما، ولكنه لا يكتفي بالمنصب، فيطالب بتشكيل هيئة إسلامية تشرف على كافة الشؤون الإسلامية في فلسطين، وينجح في حمل السلطة البريطانية على الموافقة، ويفوز في انتخابات رئاسة هذه الهيئة، ويعمد من خلال هذه الهيئة إلى تنظيم الشعب الفلسطيني.. فينظم الجمعيات الكشفية، وفرق الجوالة، وإعدادها إعدادا جهاديا، ويتصل بكافة المناضلين في العالم العربي من أمثال عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني.
وترأس الحسيني أول مجلس للشؤون الإسلامية والأوقاف والمحاكم الشرعية، وهو "المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين" عام 1922.
استعاد الإشراف على الأوقاف الإسلامية بعد أن كانت في يد النائب العام وهو اليهودي الإنجليزي بنتويش.
وتولى رئاسة لجنة إعادة إعمار وترميم المسجد الأقصى وقبة الصخرة في عام 1929. كما ترأس "مؤتمر العالم الإسلامي" الذي انطلق عام 1931 في القدس من أجل القضية الفلسطينية، وتكرر عقده برئاسته في مكة وبغداد وكراتشي وغيرها.
وبعد "ثورة القسام" عام 1936، أنشأ "اللجنة العربية العليا" التي ضمت تيارات سياسية مختلفة.. ويتولى الحسيني بعد ذلك مسؤولية "اللجنة العربية العليا لفلسطين"، وهي لجنة سرية لتنسيق الجهود على مستوى الدول العربية لنصرة القضية الفلسطينية، وتتعقب بريطانيا المفتي في كل مكان، ويلجأ الرجل للمسجد الأقصى ليدير الثورة من داخله.
ويصدر المندوب السامي البريطاني قرارا بإقالة المفتي من منصبه والقبض عليه، ويغادر الحسيني إلى لبنان حيث اعتقلته السلطات الفرنسية.. ورغم الطلب الإنجليري فإن فرنسا ترفض تسليمه، وتسمح له بالعمل في الفترة من عام 1937 إلى عام 1939.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، تقرر السلطة الفرنسية القبض عليه ونقله للسجن، فيهرب إلى العراق، وتقوم ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، ويناصر المفتي الثورة، وتشترك معه مجموعات فلسطينية على رأسها عبد القادر الحسيني الذي يشترك في مقاومة التقدم الإنجليزي في العراق.
وإذ تفشل الثورة ينتقل إلى طهران، ثم يتنقل بين عدة عواصم أوروبية حتى انتهى به الأمر إلى برلين.. وفي هذه المرحلة يلتقي قادة "دول المحور" في إيطاليا وفي ألمانيا، ولم يكن الأمر مفاجئا، فالدول العربية كلها تقريبا لم يكن بينها وبين ألمانيا عداوة على عكس بريطانيا المحتلة للوطن العربي، كما أن ألمانيا هي العدو الجديد لكل من إنجلترا وفرنسا.
فعمل الحسيني على تنسيق الجهود والإشراف على إعداد التنظيمات المسلحة في أرض فلسطين، والتي أثمرت "جيش الجهاد المقدس" في أطواره المختلفة.
وكانت رسالة المفتي السابقة على وصوله لألمانيا تتضمن مطالب، منها: الاعتراف الرسمي من جانب "دول المحور" باستقلال كل من مصر والسعودية والعراق واليمن.. والاعتراف بحق البلدان العربية الخاضعة للانتداب، سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، بالاستقلال.. والاعتراف بحق البلدان الخاضعة للاحتلال الإنجليزي بالاستقلال، وهي السودان والبحرين والكويت وعمان وقطر وحضرموت وإمارات الخليج العربي.
وتتضمن الرسالة كذلك إعادة عدن وبقية الأجزاء المنفصلة عن اليمن التي يستعمرها الإنجليز، والإعلان من قبل "دول المحور" أنها لا تطمع في مصر والسودان.. وكان الأهم بالنسبة له إلغاء "الوطن القومي اليهودي" وعدم الاعتراف به.
لقاء هتلر
وفي لقاء المفتي مع هتلر في عام 1941، رد هتلر بأن هذه المطالب سابقة لأوانها، وأنه عند هزيمته لقوات "الحلفاء" في هذه المناطق فسيأتي وقت هذا الإعلان.
وبعد نهاية الحرب، غادر المفتي ألمانيا في اللحظات الأخيرة قبل سقوط برلين، وتم القبض عليه في فرنسا، وقضى يومين في زنزانة مظلمة، ولكنه تقدم للضابط المسؤول وعرَّفه بنفسه ومكانته، وطالب بأن يعامل بالشكل اللائق، وبالفعل فقد تم نقله إلى منزل جنوب باريس.
وعندما أعلن عن وجوده في فرنسا، بدأت المطاردة له من السلطات البريطانية والأمريكية والصهيونية داخل فرنسا، ورفضت فرنسا أن تسلِّمه بسبب خلافها مع المصالح البريطانية والأمريكية.
وحرصا على عدم استثارة المشاعر الإسلامية، ونظرا لتدخل ملك المغرب ورئيس تونس أثناء وجودهما في باريس، ومطالبتهما باصطحاب المفتي معهما، وتدخل الجامعة العربية ورئيس باكستان محمد علي، جناح، من أجل سلامة المفتي، ورفض فرنسا، فقد بدأت المقايضة الأمريكية مع مشروعات إعادة إعمار فرنسا بتمويل أمريكي.. وقبل أن تقرر فرنسا تسليمه لأمريكا فقد استطاع أن يهرب من فرنسا عن طريق استخدام جواز سفر لأحد أنصاره في أوروبا، وهو الدكتور معروف الدواليبي بعد استبدال الصورة.
ونجح المفتي في الوصول إلى القاهرة عام 1947، ويظل متخفيا بها عدة أسابيع حتى استطاع أن يحصل على ضيافة رسمية من القصر الملكي تحميه من المطاردة الدولية لشخصه.
ويبدأ الحاج في تنظيم صفوف المجاهدين من القاهرة، وتدخل القضية الفلسطينية طورها الحرج، وتعلن الأمم المتحدة مشروع تقسيم فلسطين، وتعلن "دولة إسرائيل".
ويرأس المفتي "الهيئة العربية العليا لفلسطين"، وتبدأ الحرب، وتبدأ المؤامرات، وتنتهي الحرب بهزيمة الجيوش العربية، ويتم حمل المفتي من خلال موقعه كرئيس لـ"الهيئة العربية العليا" على أن يصدر أمرا للمجاهدين العرب بوضع السلاح.
وما إن يتخلص المفتي من بعض القيود حتى يسرع لعقد "المؤتمر الفلسطيني" في القدس الذي أعلن استقلال فلسطين وقيام حكومتها، ولكن مصر تعتقل المفتي ورجال "حكومة عموم فلسطين" وتحدد إقامتهم في القاهرة. ومع قيام ثورة 23 تموز/ يوليو في مصر عام 1952، يبدأ المفتي في تنظيم الأعمال الفدائية على كافة الجبهات، وتستمر العمليات حتى عام 1957.
وفي الوقت نفسه، ينشط المفتي في الجانب السياسي على مستوى الدول العربية والإسلامية، ويمثل فلسطين في تأسيس حركة "عدم الانحياز" عام 1955 في مؤتمر"باندونغ"، ولكن تدريجيا يتم تقييد حركته السياسية ووقف العمل الفدائي عام 1957 على معظم الجبهات.
وتظهر مبادرة سياسية لا تتفق مع ميول المفتي، وتطفو على السطح خطة التسوية في عامي 1959 و1960 والمعروفة بخطة "همرشولد"، وهي الخطة التي وافقت عليها دولة المواجهة العربية، وينتقل الحسيني إلى بيروت عام 1961، وينقل إليها مقر "الهيئة العربية العليا".
وتبدأ الدول العربية في الحديث عن خطة إنشاء كيان بديل لـ"الهيئة العربية العليا" وتبدأ بإصدار قرار من جامعة الدول العربية بإنشاء كيان فلسطيني عام 1963، وينشأ الكيان تحت رعاية مصر باسم "منظمة التحرير الفلسطينية" عام 1964، ويعين رئيسا له أحمد الشقيري الذي يخضع للتوجهات العربية ليترك موقعه فيما بعد لياسر عرفات.
وبعد نكسة عام 1967 يبدأ المفتي من جديد نشاطه من أجل القضية، موضحا موقفه الثابت "أن القضية لن يتم حلها إلا بالجهاد المسلح"، ويستمر الرجل في نضاله حتى تُفضي روحه إلى بارئها عام 1974 في بيروت شاهدة على عصر من الخيبات والخيانات والتضحيات الكبيرة.
وحتى يختفي من الذاكرة وتضيع قيمة المقاومة التي كان يحملها شخص الحاج، هدمت الجرافات الإسرائيلية بيت ومقر أمين الحسيني المسمى "فندق شبرد" بحي الشيخ جراح في وسط مدينة القدس في كانون الثاني/ يناير عام 2011، لإقامة عشرين وحدة استيطانية يهودية.
وطيلة مسيرته النضالية، فقد قيل الكثير حول لقاء المفتي بهتلر، ولكن قيل القليل عن لقاءات هتلر باليهود وقادة الحركة الصهيونية.
والواقع أن نوعا من التنافس نشأ في تلك الفترة بين العرب واليهود لإرضاء القوى الصاعدة في تلك الفترة وهي ألمانيا. والحركة الصهيونية كانت متورطة في علاقات واسعة مع هتلر و"الرايخ"، وثمة حقائق ووثائق كشف عن بعضها توجت بتوقيع اتفاقية "الهافارا" التي تساعد بموجبها الحكومة النازية الحركة الصهيونية في تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين.
وحين بدأ تطبيق هذه الاتفاقية وتوجه يهود ألمانيا إلى فلسطين، فقد توجه الحسيني لمقابلة هتلر والطلب منه أن تتوقف هذه الهجرة، ومهمة الحسيني سبقتها مهمات لعرب أخرين قاموا بالدور نفسه.
الحسيني كان أمام لقاء الضرورة في الاتصال بكل القوى الكبرى المؤثرة في الوضع الفلسطيني وحركة الهجرة اليهودية. وألمانيا كانت بعد الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1946، واحدة من هذه القوى مثل بريطانيا وفرنسا.
أكاذيب نتنياهو
وكثير من الأعمال التي قامت بها ألمانيا النازية ضد اليهود وقعت قبل لقاء المفتي بهتلر بسنوات، بل إنها وقعت أثناء حوار هتلر مع قادة الحركة الصهيونية العالمية.
ويقول اليهود إن النظام النازي في ألمانيا "أحرق ملايين اليهود في فترة ثلاثينيات ومطلع الأربعينيات من القرن الماضي"، في أوروبا، وهي الفترة التي سبقت حتى لقاءه بالمفتي.
لكن بنيامين نتنياهو له رواية مختلفة للتاريخ اليهودي.. ففي خطاب له قال إن "هتلر لم يكن يريد في ذلك الوقت إبادة اليهود (..) كان يريد طردهم. والحاج أمين الحسيني ذهب لهتلر وقال إذا طردتهم فسيجيئون كلهم إلى هنا".
وأضاف أن هتلر سأل مفتي القدس حينها: "إذن ماذا أفعل معهم؟"، وأنه رد عليه: "أحرقهم".
وهذه ليست المرة الأولى التي يكذب فيها نتنياهو على المفتي الحسيني لإثبات وجهة نظره، فقد ذكر في خطاب له أمام الكنيست في كانون الثاني/ يناير 2012، أن "الحسيني هو أحد مهندسي نظرية الحل النهائي التي تقضي بإبادة اليهود، فقد سافر إلى برلين ومارس الضغوط على هتلر، وأقنعه بالمضي في فكرة الحل النهائي، لكي يقضي على اليهود في أوروبا، ولا يسمح لهم بالرحيل إلى فلسطين".
وأثارت تصريحات نتنياهو جدلا واسعا حول تبرئة هتلر من تهمة "المحرقة" ولصقها بالفلسطينيين.. فمن جانبه اتهم رئيس حزب "المعسكر الصهيوني" يتسحاق هرتسوغ، نتنياهو بـ"تزوير التاريخ"، وأشار إلى أن أقوال نتنياهو "تسقط مثل الثمرة في أيدي ناكري المحرقة النازية".
زعيمة حزب ميريتس، زهافا غالون، قالت ساخرة من نتنياهو: "ماذا عن الـ33 ألفا و771 يهوديا، الذين قتلوا في منطقة باب يار الأوكرانية في أيلول/ سبتمبر من العام 1941، أي قبل شهرين من لقاء الحسيني وهتلر؟ هل ننبش قبورهم ونقول لهم إن النازيين لم يقصدوا إبادتكم؟".
وألمانيا رفضت رواية نتنياهو وتبرئتها من ارتكاب "المحرقة"؛ فقد قال شتيفن زايبرت المتحدث باسم المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل: "نعرف أن مسؤولية هذه الجريمة ضد الإنسانية مسؤولية ألمانية.. هي مسؤوليتنا نحن".
نتنياهو يعرف أنه يكذب وأن العالم لن يصدقه، وهو لا يريد تبرئة هتلر لكنه يريد مشاركة الفلسطينيين مع هتلر في "الهولوكوست"، من أجل تبرير أي مجزرة أو إبادة جماعية أو "هولوكوست" جديد بحق الفلسطينيين.. إنها مقاربة أقرب إلى الهستيريا منها للتاريخ، كما ذهبت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية.