يتفق الكثير من المحللين على أن
حزب العدالة والتنمية المغربي من قلة الأحزاب الإسلامية التي بقيت متماسكة ومستمرة في ممارسة السلطة على الصعيد العربي، ففي كل البلاد العربية التي شهدت حراكا اجتماعيا قاد الإسلاميين إلى سُدّة الحكم، حصلت تراجعات وانكفاءات، تعرض الإسلاميون في أعقابها إما للاعتقال والسجن والتنكيل، كما حصل في مصر، أو في أهون الأحوال تقهقرت مكانتهم، وفقدوا تصدّر المشهد السياسي، كما وقع في تونس.
وحده حزب العدالة والتنمية ظل قائدا للعمل الحكومي منذ انتزاعه أغلبية المقاعد في اقتراع مجلس النواب في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، وتنصيب الحكومة الائتلافية برئاسة أمينه العام في 3 كانون الثاني/ يناير 2012.
لفهم مصادر استمرار " الإسلاميين" على رأس العمل الحكومي وعدم تعرض شرعيتهم الانتخابية للاهتزاز، يتوجب استحضار جملة من المتغيرات، أبرزها طبيعة النسق السياسي المغربي، ونوعية الممارسة السياسية والحزبية السائدة، وطبيعة حزب العدالة والتنمية ذاته.
ففي المغرب، خلافا للبلاد العربية التي شهدت تصاعدَ " الإسلاميين"، هناك ملكية قديمة، حاضرة بقوة في الحياة العامة، ومتمتعة بأكثر من نمط من المشروعية، على رأسها المشروعية الدينية والأربعين "أميرا للمؤمنين"، مما يعني استحالة حصول تنازع حول التمثيلية الدينية داخل النسق السياسي المغربي.
يُضاف إلى هذا المتغير وجود تعددية حزبية قديمة ومتوافق عليها، ومعززة بالممارسة، وهي تعددية لا تسمح بتكوّن أقطاب سياسية قادرة على قيادة العمل السياسي البرلماني والحكومي لوحدها، لذلك، وعلى الرغم من حصول حزب العدالة والتنمية على النتيجة الأولى في انتخاب مجلس النواب بـ107 مقاعد من أصل 395 مقعدا، فقد وجد نفسه ملزما على الائتلاف مع أحزاب أخرى لتحقيق الأغلبية المطلقة للظفر بموافقة البرلمان على برنامجه الحكومي.
أما المتغير الثالث، فيرتبط بطبيعة حزب العدالة والتنمية، وقدرته على التكيف مع الأوضاع التي يتطلبها العمل بداخل المؤسسات، فمما لوحظ عليه استعداده الدائم لترجيح الواقعية، والبراغماتية، والبحث عن الممكن في تدبير الشأن العام، بل إن تغيرات كثيرة طالت خطابه وبرنامجه منذ الشروع في قيادته الحكومة.
وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أن الحزب تخلى عن برنامج الانتخابي للبحث عن برنامج حكومي مع شركائه في العمل الحكومي، وحتى حين تعرض الائتلاف الحكومي لأزمة استقالة وزراء حزب الاستقلال، أحد أقوى حلفائه، في أيار/ مايو 2013، وجد نفسه مضطرا، لترميم حكومته التي فقدت نصابها الدستوري، بقبول التحالف مع حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي عارضه من قبل ولم يتردد في الإعلان عن رفضه البرنامج الحكومي للحكومة التي يقودها " الإسلاميون".
ففي الإجمال ثمة قدرة لحزب العدالة والتنمية على إدارة الأزمات التي تعرض لها وهو يقود العمل الحكومي منذ
انتخابات العام 2011، وهناك أيضا درجة عالية من المرونة السياسية في البحث عن الشركاء والعمل معهم من أجل إنجاز الممكن من الإصلاحات وتحقيق المكاسب.. ولعل ذلك هو الشعار البارز الذي حكَم خطابه السياسي، أي الإصلاح في ظل الاستقرار"..
والحقيقة أن هذا الشعار ليس حكرا على " الإسلاميين"، بل هو شعار المرحلة في المغرب، حيث أجمعت الأحزاب والتنظيمات السياسية على أن المغرب في حاجة إلى إصلاحات تقوي مؤسساته وتنعش اقتصاده، وتردم الفجوة بين مكوناته الاجتماعية، لكن هو في حاجة ماسة أيضا لأن يبقى بلدا آمنا مستقرا، بعيدا عن التوترات والفتن التي تُعاني منها بلاد عربية كثيرة.
لا يمكن في تقديرنا فهم حظوظ استمرار حزب العدالة والتنمية قائدا للعمل الحكومي في المغرب مستقبلا، أي بعد انتخابات مجلس النواب عام 2016، إلا في ضوء هذه الحاجة، وفي سياق إكراهاتها. فدور "الإسلاميين" واضح في تحقيق مقصد تجاوز رجات الحراك العربي بسلاسة ودون خسارة.
صحيح أن المؤسسة الملكية مارست حداقة ودرجة عالية من الذكاء في استباق مفاجئات ما سمي " الربيع العربي"، حين بادرت إلى إجراء إصلاح دستوري عميق، وتنظيم انتخابات عامة، وفتح الطريق أمام الإسلاميين لقيادة العمل الحكومي، غير أن " الإسلاميين" أيضا استوعبوا طبيعة المرحلة، ووظفوها بمصلحية لافتة لإقناع الملكية بأنهم الأقدر أكثر من غيرهم على لجم الحراك الاجتماعي الذي قادته حركة 20 فبراير، وتوجيه الرأي العام نحو خيار الإصلاح في ظل الاستقرار، وقد تحقق لهم ذلك، بل إن حزب العدالة والتنمية ظل على امتداد الأربع سنوات الماضية يجهد من أجل تقوية جسور الثقة مع الملكية ومحيطها، إلى حد يعطي الانطباع بأن أمينه العام تحول إلى مجرد أداة تنفيذية للإرادة الملكية، وليس قائدا لحكومة أفرزتها الانتخابات العامة.
اليوم وقد أكدت انتخابات الرابع من أيلول/ سبتمبر 2015 الأخيرة تصدر الحزب قائمة المرتبة الثالثة للفائزين، يبدو أن الحاجة لاستمراره ما زالت موجودة وقائمة، وأن الثقة الملكية في " الإسلاميين" لم تهتز، وأن المستقبل قد يسعفهم في الاستمرار في القيادة وإن بخلطة حزبية شبه جديدة.